-------------
نعم أحببتك، كنت سعيدة بهذا الشعور الذي لم أعرفه من قبل.. كثيرا ما كنت أراك في الأجازات الصيفية، كم لعبنا معاً، كم ركضنا بحديقة بيتكم، كم تمزقت ملابسنا ونحن نصعد الأشجار، كنا نخاف وقتها انتظار العقاب لكن سعادتنا بانطلاقنا كانت تهوّن في نظرنا أي عقاب، وعندما تنتهي الأجازة ويحين موعد العودة يبكي عصفور في قلبي تبلل دموعه أجنحته الشفافة فيلتصق بالضلوع، هكذا عشت طفولتي وصباي لا أعرف من الدنيا سوى السفر وأجازة صيف لا تدوم كثيرا، فقد قررت أمي ومعها أبي أن أرحل عنهما منذ طفولتي، فتركوني عند جدي وسافرا لإحدى الدول الشقيقة، للأسف جدتي كانت قد رحلت منذ عامين، وصار عبء رعايتي على جدي الذي لم يتوان لحظة عن الاهتمام بي، لكن اهتمامه لم يعوضني ما افتقدته، أعتمد جدي على المربية في رعايتي، وفي الأجازات الصيفية كنت أذهب عند خالتي، لماذا تركوني؟ تعللا وقتها بأنهما يفضلان أن أتعلم في بلدي! كنت منذ نعومة أظفاري اشعر بشيء يحزنني، عندما كبرت عرفت أن هذا الشيء هو الإحساس بالاغتراب، الإحساس بالحاجة الشديدة غلى صدر أم واحتواء أب، اللهفة لأن يحتويني فراش دافئ في بيت هو بيتي، ولحظة الإفطار مع الأسرة وركوب السيارة مع أب بينما أم هناك في النافذة تلوح براحتيها الحانية ولا تنسى أن تتمتم بآيات قرآنية تحصنني بها قبل خروجي، كل ذلك كنت أراه عندكم، فرغم أن أمك هي شقيقة أمي، إلا إنها أبدا لم تكن مثلها، أمي كانت مشغولة دائما، وكذلك أبي، ويبدو أنهما لم يتركاني حبا في مصلحتي ولكن لأنني كنت أشكل عبئا، حتى في أجازاتي لم أكن أجدهما، لقد تعودت غيابهما حتى أنني مع الزمن لم أكن أسعى للبقاء معهما، كانت أجازاتي كلها أقضيها عندكم في بيت أحببته يقف بهدوء ينظر للبحر بحب وخشوع.
وكبرت، وكلما مرت سنة تزداد مساحات شاسعة بداخلي أراك تحكمها، وبدأت الزهرة تتفتح، نفضت عنها سذاجة البرعم، صارت تختزن عبيرها لمن تختاره بستانيا يرعاها، وبعدما كنت أنت رفيق طفولتي أصبحت سيد أحلامي، تخرجت أنت وصرت أنا على أعتاب الجامعة، ماذا ينقصنا حتى نبقى معا؟ الكل يبارك خطوتنا، أمي لا ترتاح لاقتراح خالتي أن أسكن معكم، تريدني أن أستقل بمنزل وحدي، لكنني لا أوافق أمي، أصررت أن أحيا معكم، وبدأت أيامنا كأحلى ما يكون العمر، لم أكن أعرف أن الحياة تختزن لي كل هذا الفرح، معكم كنت أعيش أحلى أيامي، بدأت تنشغل بعملك الجديد وأنشغل أنا بدراستي لكننا لم ننس أبدا أننا حبيبان، كنت تعتبرني هدية وكنت أراك معجزة، عام مر وكأنه لحظة، وجاءتك الفرصة اختارك البنك لتعمل بفرعه في بريطانيا، حاولت أن تأخذني معك، رغم حبي ضايقني هذا الاقتراح، لأبقى هنا أنهي دراستي وانتظرك، في أجازتي الدراسية سافرت إليك، أي شعور سيطر على وأنا هناك؟ الست مدمنة غربة؟ ثم كيف تكون الغربة وأنا معك؟ ألا أحبك؟ ومن الطبيعي أن أكون معك؟ إنك تفعل كل ما يمكنك لإرضائي، تحاول إقناعي بالبقاء معك، ودراستي؟ إما الانتساب، وإما أن تحصلي على شهادتك من هنا، وهذا أفضل لك جدا، لماذا لا أوافق؟ لماذا أشعر بالقلق؟ كل أسباب السعادة تحيط بي فلماذا أنا حزينة؟ أنت معي فلماذا أشعر بالغربة والوحدة؟.
وبدأت أرى فيك أشياء لم ألحظها من قبل، فرشاة حلاقتك التي تتركها دائما مبتلة بفقاعات الصابون تضايقني، إصرارك على القراءة قبل النوم وإشعال المصباح بجانبك يرهق أعصابي، متابعتك المستميتة لمباريات كرة القدم تستفزني، صوتك العالي يضايق أذني، رائحة التبغ الذي تحرقه يجثم على صدري! خلافات كبيرة صارت تحدث بيننا من هفوات صغيرة.. أشياء صارت تستفز هدوئي رغم أنها كانت تحدث من قبل ولم تكن تضايقني، تكهرب الجو وساءت علاقتنا وكثرت المشاحنات، في أجازة صغيرة نعود لوطننا، أكاد أقبل جدران حجرتي وأصافح فراشي وأروي لكل زهرة بالحديقة ما حدث لي، بعد يومين فقط من عودتنا بدأت أتصالح مع عادتك الصغيرة، ماذا دهاني؟ هي عاداتك نفسها فلماذا لا أراها الآن عيوبا؟ لماذا لا يضايقني المصباح ولا تستفزني الفرشاة ولا أسمع صوتك إلا نغما؟ مباريات الكرة ابتسم عندما أراك تتابعها، ورائحة التبغ لم تعد تزعجني.
أنت مندهش، أما أنا فحائرة.. هل أحببتك أنت؟ أم أحببتك من خلال أسرتك التي وفرت لي دفء حياة عائلية حرمتني منها الظروف؟.
هل عشت حياتي كلها في قوقعة فارغة، فعندما رأيت محارتك تسبح فيها حبات اللؤلؤ بحب وتماسك أحببتك حتى أعيش هذه الحياة؟ أريد أن أفهم نفسي.
ساحة النقاش