أتأمل زرقة البحر أمامي فإذا بهبة ريح عاتية تطيح بي فى الهواء وترفعني عاليا ثم تقذف بي فوق جزيرة الذكريات, فهنا على نفس هذا الشاطئ اللازوردي الجميل التقيت بحبي الأول, عرفت لأول مرة فى حياتي طعم الشوق والأرق والقلق واللهفة للقاء الحبيب.
هنا فى هذا البحر ذاته ألقيت خلاصابني وابنتي وأنا أتمتم ببعض الأدعية على عادة الإسكندرانية الذين يتفاءلون خيرا بهذه العادة ويعتقدون اعتقادا راسخا بأن المولود الذى سيطعم خلاصه لأسماك البحر سيكون محظوظا فى حياته، وسيتوفر له الرزق ويعم الخير كما يتوفر فى قاع البحر وعلى شواطئه، فالإسكندرانى يتفاءل بالبحر لأنه ينشأ فى أحضانه.
الأمهات فىالإسكندرية يعرضن مواليدهن لمياه البحر فى الأسابيع الأولى التى تعقب الميلاد يتركنهم على رمالالشاطئ فى الشهور الأولى يمرحون وينمون بكل حرية فلا قيود ولا ضوابط, لا ممنوع ولا مفروض, ولاواجب ولا محظور, وينشأ الطفل ولديه هذا الإحساس ما أن يلمح البحر حتى تعود به بالذاكرة إلىسنوات العمر الأولى إلى لحظات المرح والانطلاق والتحرر من القيود التى يفرضها المجتمع فرضا علىأفراده.
وأتجول بين أشجار جزيرة الذكريات الكثيفة فالأحداث كثيرة وتجاربي مع هذه المدينة تغطى مساحةكبيرة من عمري، لعلها أفضل أيام حياتي على الإطلاق تلك المرحلة التى تطلق عليها اسم الشباب,أول وعي بشاطئ البحر كنت فى العاشرة من عمري حصلت على الشهادة الابتدائية بتفوق وأثبت جدارتيلتحمل المسئولية, ففي تلك الأيام البعيدة كان الكسالى فقط هم الذين يستعينون بالدروس الخصوصية، وكانأغلب المدرسين يتطوعون بساعات إضافية يشرحون فيها للتلاميذ ما قد يكون فاتهم أو غمض عليهم من الدروس، على ذلك فقد كان النجاح والتفوق ملكا خالصا للتلميذ لا يشاركه فيه أحد.
وبدأت عائلتي تنظر إلى نظرة خاصة نظرة تقدير للساعات الطويلة التى حبست فيها نفسي وحرمتعليها كل المتع والرفاهيات لكي أراجع الدروس.. وتفهم لرغبتي القوية فى الانفراد بنفسي ورفض مشاركةالمذاكرة مع أي شخص آخر والامتناع عن أى نشاط خارج حدود المذاكرة والمراجعة.
تمددت قامتي طويلا.. وبدأ جسدي يتمرد على ملامح الطفولة، وراحت أمي تعد لي من الفساتين ما يليقبالمرحلة الجديدة, فساتين الصيف المبهجة التى تزدان بالكرانيش والكسرات والكلوش والزهور والألوانالدافئة, وما أن لاح ضوء النهار حتى استقلت العائلة سيارة واتجهنا إلى الإسكندرية, تلك المدينة التىتربطنا بها, رابطة القرابة، فقد ولد بها أبى وجدي، وولد بها ابنى وابنتي.
وأصبح لنا نظام يومي لا يتغير، فى التاسعة صباحا يستعد الجميع لمغادرة البيت حاملين عدتهم وعتادهممن كراسي البحر والشمسية والساندويتشات وزجاجات المياه المبردة وكل ما لذ وطاب من مأكولاتوحلوى وتسالي, وفى الثانية عشرة ظهرا تهل علينا أمي بوجهها الجميل وابتسامتها المحببة، يتبعها الخدمحاملين صواني الغداء, وفى الثالثة عصرا ننسحب عائدين إلى البيت لكي نستمتع بنوم القيلولة تأهبا واستعدادا لتمشية العصارى على الكورنيش التى قد تمتد إلى ما بعد منتصف الليل0واستمتعت بكل لحظة فى ذلك الهناء العائلي لحظات تدفق الضيوف على الشمسية وغرس شماس أخرى عديدة لكي تتسع الدائرة, ولحظات التعارف بين العائلات وأحاديث السمر بين الكبار والعراكاتالصغيرة بين الصغار التى عادةما تنتهي بالعناق وتقوية أواصر الصداقة, وتصورت أن الدنيا ستظل مبتسمة طوال الصيف لدرجة أنى كرهتالتفكير فى الشتاء, وبدأت أتمنى ألا نعود إلى المدرسة أبدا, فجأة حدثت الواقعة، وانغرست ثمرة ريشةفى قاعإحدى قدمي, وثمرة الريشة معروفة جدا لرواد شواطئ الإسكندرية فهي تشبه القنفذ الصغير كثير الأشواك،وبداخلها مادة تشبه صفار البيض يعشقها البعض, أم أنا فقد انقلبت حياتي رأسا على عقب بعد ذلك الحادثوأمضيت باقي الصيف أعالج من جرح فى قدمي أعاقني عن الحركة وحبسني بين جدران البيت لأسابيع طويلة وصرت أتأمل إخوتيوأخواتي فى حسرة وهم يغادرون البيت يوميا ليمارسوا برنامج البهجة اليومي, ولم ينقذني من براثن الوحشة والملل سوى العودة لعادتي القديمة القراءة بشراهة قراءة كل ما تقععليه عيناىمن كتب ومجلات وجرائد قديمة مهترئة وجديدة لامعة, وهأنذا أتأمل تلك الحادثة فى حياتي تحت شجرة وارفة بجزيرة الذكريات، وأردك كم كان لها تأثير كبير على حياتي كلها تأثير إيجابي بكل تأكيد, ولرب ضارة نافعةكما يقولون.
ساحة النقاش