هدى إسماعيل
بعد تعاقب الثقافات والحضارات على أى دولة تتأثر معرفتها وعاداتها وتقاليدها، بل معجمها اللغوى الخاص بتلك الثقافات، وهذا ما حدث فى مصر إثر خضوعها للإمبراطورية العثمانية، حيث رحلت الامبراطورية وبقى بعض شواهدها وطقوسها وعاداتها وتقاليدها، بل قاموسها اللغوى.
ولأن مصر ظلت خاضعة للحكم العثمانى لأكثر من ثلاثة قرون فقد تأثرت بالدولة العثمانية، وقد امتد تأثير الحقبة العثمانية فى مصر إلى العديد من نواحى الحياة، بما فى ذلك العادات والتقاليد، وأصبح لتركيا عادات وتقاليد مقتبسة من مصر والشام، وكذلك اقتبس المصريون والعرب عادات وتقاليد مقتبسة من الحكم العثمانى.
قبل بداية كل عام ميلادي، يحرص الجميع على شراء النتائج رغبة في معرفة الأيام والشهور ومواقيت الصلاة، وهكذا تبدو إمساكية رمضان، فهي المنبه بالنسبة للصائمين خلال شهر رمضان، فهي تحتوي على أيام الشهر الفضيل مع مواقيت الصلوات الخمس وموعد الإفطار وبدء موعد الصيام.
من الكلمة العربية «إمساك» أشتق تسمية الإمساكية لتشمل إمساك الصيام وإمساك الإفطار، وفي عهد محمد على عام 1846 ميلاديا كان ظهور أول إمساكية مطبوعة وعرفت بـ«إمساكية ولي النعم»، وتم طباعتها في مطبعة بولاق، على ورقة صفراء ذات زخرفة بعرض 27 سم وطول 17سم، كتب فيها مواعيد الصيام والصلاة لكل يوم من أيام رمضان بالتقويم العربي.
وأثناء حكم الخديوي إسماعيل تم تعديل شكل الإمساكية في عهده، وأدخل التقويم الميلادي إلى جانب الهجري؛ كما قام باقتناء مدفع آخر أطلق عليه مدفع "الحاجة فاطمة"، نسبة إلى ابنته فاطمة التي تبرعت فيما بعد بأرضها لإنشاء الجامعة المصرية أو "جامعة القاهرة" حاليا.
وتطورت الإمساكية الرمضانية من العشرينيات للأربعينيات على صور وأشكال وأغراض مختلفة، إلى أن تم استغلالها كوسيلة للدعاية للمنتجات والمحال التجارية، فكانت أول إمساكية للدعاية خاصة بمطبعة تمثال النهضة المصرية التى اعلنت استعدادها لطبع كافة الكتب.
ثم انتقلت الإمساكية لمرحلة الإعلان التجاري عن المنتجات والبضائع على يد رجل الأعمال اليهودي داوود عدس، الذي طبع أول إمساكية لسلسلة محلاته، لكن اختلفت إمساكية عدس عن غيرها، كونها كانت مرفقة بمعلومات عن الصيام وفضله وأسباب فرضه، وأسفل هذه المعلومات إعلان دعائي لمحله.
وأعطت إمساكية داوود عدس الفكرة لآخرين لطبع إمساكياتهم ذات الورق المُتعدد، فطور بعد ذلك أحد تجار العطارة إمساكية ضمت أحكام الصيام، وبعض الأدعية والآيات القرآنية وأذكار الصباح والمساء وأحكام زكاة الفطر وأجندة مواعيد والتي ما زالت متداولا حتى الآن.
عطشان يا صبايا
"عطشان يا صبايا دلوني على السبيل" كانت عادة الملوك والسلاطين منذ القدم إنشاء الأسبلة كباب من أبواب الخير والإحسان والغرض منه خدمة الناس، لذلك أنشأوا تلك الأسبلة تقربًا إلى الله تعالى وأملاً فى الثواب حيث سقاية الناس يعتبر عملًا يجازى عليه فاعله وهى نشاط خيرى كان يستهدف الفقراء وعابرى السبيل وذلك بتوفير ماء الشرب للمارة فى الطرقات حتى لا يتعرضوا للعطش أثناء ممارسة أنشطتهم وأعمالهم المختلفة.
ويعد أول بناء للأسبلة كان فى العصر المملوكى ابتداء من القرن السادس الهجرى وكان معظمها من أعمال الأمراء والسلاطين ونسائهم كأنها كفارة عن الذنوب و الآثام، كما بنى الأغنياء تلك الأسبلة صدقة جارية لأنفسهم أو لأبنائهم أو لأحد أقاربهم المتوفين، وتميز كل سبيل بعمارة هندسية تعود إلى العصر الذى شيد فيه كما يمثل تراثا معماريا غنيا يحوى بداخله أنماطا مختلفة، ويمتاز بتنوع عناصره فى الواجهات والمداخل والشبابيك والعقود والمقرنصات فضلا عن النقوش الكتابية والزخرفية.
لم يقتصر السبيل على وظيفة توفير المياه للمارة فقد كانت له وظيفة أخرى مهمة وهى التعليم حيث يلحق بالسبيل فى الجزء العلوى منه الذى يمثل الطابق الثالث "كتاب" ليتعلم فيه الناس القرآن الكريم، وكان ذلك التقليد أى الجمع بين وظيفة السقاية والتعليم فى بناء الأسبلة منذ الحكم المملوكى ما يعطى السبيل المصرى خصوصية وتفردًا عن الأسبلة الأخرى التى أنشأت فى معظم مدن العالم الإسلام، ويوجد فى مصر مائة من الأسبلة ومن أشهر هذه الأسبلة: سبيل "محمد على"، الذى يعد من أشهر الأسبلة، وأهمها فى مصر الذى يوجد بجوار باب زويلة.
قنصوة الغورى: أنشأها السلطان المملوكى قنصوة الغورى ملحقًا بمجموعة معمارية هائلة استمر بناؤها سنتين.
أم عباس: من أشهر الأسبلة فى مصر ويعود لعهد الخديوى عباس، ويقال إن السبيل قد أقيم عام 1867 ومن أنشأته هى والدة الخديوى عباس حلمى الثانى ابن عم إسماعيل باشا، ليشرب منه الناس الماء المبرد، والمحلى بماء الورد، وليأخذ المسافرون بعض الراحة والطعام فيه مجانا.
قايتباى: كان أفخم تصميم معماري فني، وفيه 4 واجهات اختفت بسبب المباني الحالية من حوله، ويقع السبيل قرب مدرسة السلطان حسن ويعتبر من أروع آثار مصر الإسلامية لما يتميز به من جمع بين المهابة التى تتجلى فى حجمة الضخم والدقة الفنية فى زخارفه وتنوعها وتناغمها.
نفيسة البيضا: أنشأ هذا السبيل والكتاب الذى يعلوه السيدة نفيسة خاتون معتوقة الأمير على بك الكبير وزوجة الأمير مراد بك الذى عرفت من أجله بنفيسة المرادية، وقد أنشأته على عهد الوالى العثمانى أبو بكر باشا آخر الولاة العثمانيين على مصر.
الأمير سليمان السلحدار: فى واجهة حارة برجوان الشهيرة، إحدى تفريعات الشارع التاريخى "المعز لدين الله"، أنشأ الأمير سليمان أغا السلحدار مسجده الجامع لينهى بناءه بعد عامين فقط، وألحق به السبيل ويعتبر تحفة معمارية قائمة بذاتها حيث تكتسى واجهته برخام أبيض يحتوى أيضا على الزخارف الإسلامية والكتابات كما هو حال المسجد.
عبد الرحمن كتخدا: سبيل وكتاب عبد الرحمن كتخدا أحد قادة الجيش العثماني في مصر، وهو الأشهر بين كل السُبل في مصر، وتم بناءه بمزيج بين العمارة المملوكية والعثمانية.
ساحة النقاش