تعد متاحف الفن بمثابة ذاكرة الوطن الإبداعية .. وهي الوثيقة البصرية للحاضر والتاريخ .. وتعني عرض التراث الإنساني بغية التعلم والدراسة وتأكيد روح الانتماء بما تشتمل من تحف نادرة وروائع الأعمال الفنية .. هذا بالإضافة إلي ما للإبداع من وظيفة في الارتقاء بالذوق والإحساس.

ومن بين متاحف مصر القومية والفنية .. يطل متحف محمد محمود خليل وحرمه على نيل الجيزة .. وهو بمثابة نافذة على الفن الأوروبى فى القرنين التاسع عشر والعشرين .. ويضم أكثر من 300 لوحة و143 تحفة فنية تمثل ثروة من كنوز الابداع العالمى .

وإذا كانت سرقة لوحة «زهرة الخشخاش» للفنان الهولندى فان جوخ من المتحف تعد كارثة فنية وقومية ودولية .. وهى أهم لوحة بالمتحف مع لوحة «الحياة والموت» لجوجان .. إلا أن تلك الحادثة .. اهتز لها الرأى العام .. وأعادت الثقة من جديد فى أهمية معنى الفن .

صاحب المتحف

ولد محمد محمود خليل عام 1877 وسط عائلة ارستقراطية وعقب تخرجه من مدارس الليسيه .. قررت الأسرة سفره إلى باريس لدراسة الزراعة حتى يكون مؤهلا للإشراف علي مئات الأفدنة التى تمتلكها الأسرة ولكنه تراجع بعد سفره عن هذه الفكرة والتحق بقسم القانون بجامعة السوربون عام 1897 وكما تعرف عميد الأدب العربى طه حسين على رفيقة حياته زميلته سوزان وأحبها وتزوجها .. تعرف من قبله محمود خليل على الفرنسية الحسناء إيميلين هيكتوز التى تدرس الموسيقى وتعشق الفنون الجميلة واستطاعت بفضل قصة الحب التى ربطت بينهما وانتهت بالزواج عام 1903 وجذبت محمود إلى عالم الفنون واصطحبته إلى المتاحف والمدارس والميادين المسكونة بالنصب والتماثيل وتعرف على كبار الفنانين من المصورين والمثالين .. ومن هنا عشق الفن وبدأ فى اقتناء الأعمال الفنية وأول لوحة اشتراها كانت «ذات ربطة العنق من التل الأبيض» للفنان الفرنسى رينوار «1841 - 1919» اشتراها بمبلغ 400 جنيه وتقدر الآن بعشرات الملايين من الدولارات وهى واحدة من 6 لوحات اشتراها له.

وعاد إلى القاهرة مع زوجته الفرنسية إيميلين وبدأ فى تشييد قصره وحديقته التى تحيطه وتضم أندر أنواع النباتات .. وانتقل إليه عام 1915 مع ثروته الفنية من اللوحات والمقتنيات والتى أضاف إليها باستمرار وبدون توقف .. وتولى محمد محمود خليل رئاسة جمعية محبى الفنون الجميلة فى مصر عام 1924 وفى الحياة السياسية تولى رئاسة مجلس الشيوخ أحد مجلسى البرلمان المصرى .. واهتم خليل والسيدة زوجته بلوحات الانطباعيين الفرنسيين الذين شكلت مجموعاتهم الجانب الأكبر من الرسوم الملونة الزيتية والمائية والطباشير .. أبدعها 143 فنانا بينهم تسعة مصريين

وأوصى محمد محمود خليل باشا وحرمه أن يؤول القصر أو المتحف إلى الدولة بعد وفاتهما بشرط أن يتحول إلى متحف رسمى يحمل اسمهما معا .

وتحول إلى متحف بأسهما

زهرة الخشخاش

وفى الدور الأول توجد أهم لوحتين بالمتحف ولاهميتهما الشديدتين تم تخصيص حجرة لكل منهما مزودة بعدد من الكراسى الوثيرة حتى يمكن للزائر أن يجلس ويتأمل فى هدوء واسترخاء .

الأولى : «زهرة الخشخاش» للفنان فان جوخ «زيت على قماش» رسمها عام 1887 مقاس «64*53سم» وهى اللوحة الوحيدة لهذا الفنان العظيم وليس غريبا أن تكون هذه هى المرة الثانية التى يتم السطو عليها فقد سرقت من قبل عام 1978 وعادت فى ظروف غامضة بعد عامين ومن المحتمل أن يكون وراء ذلك عصابة دولية فى سرقة اللوحات الفنية .

وفان جوخ واحد من علامات الفن الحديث وتكمن شهرته فى حياته المتميزة وقوة التعبير فى أعماله .. وقد قطع احدى أذنيه ذات مساء ثم لفها وسلمها إلى حانة القرية من أجل توصيلها لفتاة ليل لمجرد أن قالت له : كم هى جميلة أذنك يا فان ؟! .. وقد أنهى حياته فى السابعة والثلاثين من عمره عندما خرج إلى أحد الحقول وجلس تحت شجرة ثم أطلق الرصاص على نفسه بعد أن ترك رسالة لأخيه يقول فيها : لقد جازفت بحياتى فى سبيل الفن ومن أجله أوشكت أن أفقد رشدى» .

أما اللوحة الثانية فهى : «المستحمات فى تاهيتى» أو «الحياة والموت» للفنان العالمي بول جوجان «1848 - 1903» مقاس «92*75سم» وهى من أغلى لوحات المتحف مع «زهرة الخشخاش» ، وهناك أعمال للفنانين : رينوار وديلاكروا وديجا وتولوز لوتريك والمثال رودوان وغيرهم من فنانى أوروبا».

ليست الأولي

ولا تعد لوحة «زهرة الخشخاش» الأول بالنسبة لسرقة اللوحات العالمية .. فبطول تاريخ الفن .. تعد سرقة الأعمال الفنية من متاحف العالم بمثابة ظاهرة تحتاج لوقفة كبيرة .. هذا على الرغم من استحكامات الأمن المرتبطة بأحدث الوسائل التكنولوجية والتى تجعل الأعمال فى مأمن .. والعجيب أن أعمال السطو فى بعض الأحيان قد تكون فى الخفاء بعيدا عن أعين الرقباء والناس نيام .. وقد تكون نهارا أمام المشاهدين من الرواد.

وليس هناك أشهر من «الموناليزا» أيقونة الفن و«حيلة» الابداع على مر العصور والتى ابدعها فنان عصر النهضة ليوناردو دافنشى .. وقد تعرضت للسطو أكثر من مرة وربما يمثل جزءاً من شهرتها بسبب ما حدث لها من سرقة .

فى المرة الأولى سطا عليها إيطالى من أجل استرجاعها وعرضها بمسقط رأسها بعد نقلها من مكانها بمتحف اللوفر .. وذلك حين جعلها مسطحاً لمنضدة وغطاها بمفرش وخرج بها ولكنه ضبط على الحدود .. وانكشفت اللعبة .. كان هذا فى بداية القرن الماضى .

وفى عام 1911 استطاع شاب فرنسى يدعى بروجى كان يقوم بترميم بعض اطارات الصور بمتحف اللوفر .. استطاع أن يسرق الموناليزا مرة أخرى ويخفيها لديه .. وبعد عامين أى فى عام 1913 باعها لفنان إيطالى يدعى الفريد وجيرى الذى ما إن رآها وتأكد أنها الموناليزا حتى أبلغ السلطات الإيطالية التى قبضت على اللص وأودعت اللوحة فى متحف يونيرجاليرى بإيطاليا وقد فرح الإيطاليون بذلك لعودتها إليهم ولكن عندما علمت فرنسا استطاعت أن ترغم الحكومة الإيطالية على إعادة اللوحة لها ومعها السارق.

وكان يوم محاكمة بروجى يوما مشهودا حيث تسابق كبار المحامين الفرنسيين للدفاع عنه .. وقد ذكر بروجى فى معرض الدفاع عن نفسه أن الدافع على سرقة الموناليزا هو أنه كان يحب فتاة تدعى ماتيلدا أحبها حبا شديدا لكنها توفيت بعد معرفة قصيرة بينهما وعندما شاهد الموناليزا باللوفر وجد فيها ماتيلدا حبيبته فقرر سرقتها وقد صدر الحكم عليه بالسجن لمدة عام واحد فقط تعاطفا مع حكايته المؤثرة .

وتعد أعمال الفنان النرويجى ادوار مونش بمثابة الراية الأولى للمدرسة التعبيرية بخطوطه التى تزحف كالأمواج إلى سماء الصورة خاصة فى لوحته الشهيرة الصرخة .. التى تجسد صرخة البشرية فى العصرالحديث .. وقد تعرضت الصرخة للسطو من متحف مونش بالنرويج عام 2008 حيث قام مسلحون بسرقتها وكانوا ملثمين ويرتدون ملابس سوداء ويشبهون لصوص المصارف .. وقد قاموا بنزع اللوحة من على الحائط هى ولوحة أخرى .. لوحة «العذراء» تحت سمع وبصر زوار المعرض المذهولين .. وكانت اللوحة قد تعرضت للسرقة من عشر سنوات وظلت مفقودة حتى ثلاثة أشهر ثم استعيدت مرة أخرى ، وهذا العام تحديدا فى شهر مايو تم السطو على متحف الفن المعاصر بباريس وسرقت خمس لوحات لرسامين كبار قدرت بلدية العاصمة الفرنسية قيمتها بحوالى 100 مليون دولار.

لبيكاسو وماتيس والذى كان منافسه الوحيد والذى نقلنا إلى دنيا حالمة مسكونة بعالم ألف ليلة وليلة وهمس شهر زاد لشهريار كما كان من بين الأعمال المسروقة لوحة جورج براك «شجرة الزيتون قرب اسيناك» ولوحة فرناندلبحية طبيعة صامتة وشمعدانات» أما موديليانى الذى رحل عن عالمنا وعمره 36 سنة وترك عالما مسكونا بالعاطفة والشاعرية بتلك الوجوه البيضاوية والرقاب الطويلة التى تشبه رقاب الأوز فقد كانت لوحته «امرأة تحمل مروحة يد» ضحية للسطو .

ولاحظ المسئولون أن إحدى الواجهات الزجاجية قد كسرت وأن قفلا قد خلع وأظهرت المراقبة أن شخصا قد دخل عبر النافذة .. وعندما فتح محضر التحقيق جاءت السرقة بسبب عطل فى جهاز الإنذار الذى لم يكن يعمل بالإضافة إلى قصور الحراسة .

التربية المتحفية

وإذا كانت سرقة «زهرة الخشخاش» تعد كارثة فنية وقومية ودولية .. إلا أن تلك الحادثة قد اهتز لها العالم وأعادت الثقة من جديد فى أهمية معنى الفن .. تؤكد على أهمية التربية المتحفية بالنسبة لأبنائنا من حيث الارتقاء بالذوق وتأكيد روح الانتماء .. والوعى بالتاريخ من خلال الفن..

وهنا نضمن جيلا يمتلك ثقافة بصرية رفيعة ووعياً متحفياً تتأكد فيه كل القيم الفنية.. وفى نفس الوقت نضمن جمهور يعى معنى الفن ويتعرف على أسرار الجمال ننشــد من خلاله أجيالا سليمة ذهنيا وفكريا.. تحلق فى آفاق الخيال ولا تعرف معنى العنف.

 

المصدر: صلاح بيصار - مجلة حواء
  • Currently 67/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
24 تصويتات / 2495 مشاهدة

ساحة النقاش

hawaamagazine
مجلة حواء أعرق مجلة للمرأة والأسرة المصرية والعربية أسسها إيميل وشكرى زيدان عام 1955، وترأست تحريرها الكاتبة أمينة السعيد، ومن يوم تأسيسها تواكب المجلة قضايا وهموم المرأة والأسرة المصرية والعربية. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

23,254,914

رئيس مجلس الإدارة:

عمر أحمد سامى 


رئيسة التحرير:

سمر الدسوقي



الإشراف على الموقع : نهى عبدالعزيز