<!--<!--<!--

إمرأة ولا كل النساء:

أما كيف تقابلنا، فلذلك قصة يرجع تاريخها إلى أواخر عام 1944 عندما دعتني محطة الشرق الأدنى للسفر إلى مدينة يافا لإذاعة بعض المحاضرات الأدبية. وكان الجدل السياسي حول فلسطين مستعرا، فوجدتها فرصة طيبة لدراسة القضية التي تشغل أذهاننا، فقبلت الدعوة، وأتممت استعدادي للرحيل، ثم ذهبت إلى الزميلة هدى شعراوي أستأذنها في السفر...

واستفسرتني- رحمها الله- عن برنامج رحلتي، فكما عرفت أنه قاصرا على فلسطين، رجتني أن أعبر الحدود إلى لبنان، لازور نيابة عنها صديقتها الوفية إبتهاج قدورة، التي جاءت الأنباء بأن مرضها قد أشتد عليها، حتى باتت حياتها في خطر.

وسألتها عمن تكون إبتهاج قدورة، فأغرورقت عيناها وهي تقول إنها زعيمة النساء في لبنان، إمرأة ولا كل النساء، عظيمة، نبيلة، ذكية، قديرة، فاضرعي معي إلى الله أن يكلأها برعايته

ووعدت هدى هانم بزيارة السيدة إبتهاج، ووفيت بوعدي، فبعد أن أتممت مهمتي في فلسطين، سافرت إلى بيروت، حيث قيل لي أن صحتها قد ساءت أخيرا، والأفضل أن أعجل بزيارتها....

 

المريضة الباسمة:

وتخيلتها إمرأة هزيلة محطمة، أتت العلة على نشاطها وحيويتها، وهذه صورة لا ترتاح إليها النفس، ولكني خضعت لحكم الواجب كارهة. وذهبت إلى بيتها

وقادوني إلى غرفة نومها فرأيت في الفراش ما لم أكن أتوقع: سيدة صبوحة الوجه، مطمئنة النفس، باسمة الثغر.... كانت نحيلة إلى درجة الهزال، مريضة في أشد حالات المرض، ولكنها كانت قوية الروح، راسخة الإيمان، عظيمة في إنكار الذات... وسمعتها تتكلم عن مشروعاتها راضية، وتحيي ضيفاتها بكرم، وتسأل عن حال هذه وتلك، ولكن لم أسمعها ولا مرة واحدة تذكر نفسها، أو تشير إلى مرضها، أو تعبر عن آلامها المبرحة بكلمة أو لمحة... وكان الوجوم يكسو وجوه الجالسات من لبنانيات وسوريات وفرنسيات وإنجليزيات أما هي فلم تزايل الإبتسامة ثغرها، لا ولم تنسها المحنة واجبها في إكرام ضيفاتها، فراحت تحيي كلا منهن بلغتها، وتتحدث الإنجليزية والفرنسية كأبنائهما.

هذه أول صورة عرفتها لها، ولكنها لم تكن الأخيرة، فقد استجاب الله إلى دعوات المؤمنين بفضلها، فأسبغ عليها ثوب العافية، لتستأنف جهودها في خدمة الإنسانية على أوسع صورها.... وتقابلنا بعد ذلك عشرات المرات، فكانت " إبتهاج" في سرائها كما كانت في ضرائها: وجها صبوحا، وقلبا حنونا، ونفسا تدين بنكران الذات في سبيل الغاية السامية.

 

طفلة نابغة

وليست فضائل إبتهاج جديدة عليها، فمنذ طفولتها، وأهلها يرون عجبا من ألوان إمتيازها... كان أبوها الدكتور أديب قدورة، أول طبيب مسلم في سوريا ولبنان،ولم تكن إبتهاج أول أبنائه ولا آخرهم، ولكنها كانت فريدة في ذكائها، متقدمة في كل مرحلة من حياتها، حتى ليقال أنها أحسنت الكلام وهي في الشهرالسابع من عمرها، وحفظت القرآن قبل أن تبلغ السادسة! وكانت في المدرسة كما كانت في البيت ممتازة محبوبة، فأحاطت بها زميلاتها، واخترنها زعيمة لهن، ومدافعة عن حقوقهن، وشفيعة لأخطائهن... وكانت تنال جوائز الإمتيازدائما، فلا تحملها إلى بيتها كما يفعل التلميذات عادة، بل توزعها على زميلاتها، راغبة عن الاستشعار بالشرف دونهن، قانعة بلذة اشراكهن في فخرها.

ولم يكن التوسع في تعليم المسلمة مستحبا في ذلك العهد، فحجزها أهلها في البيت بعد أن أتمت الدراسة الإبتدائية، لكنها كانت متعطشة إلى العلم، فلم تخضع لأحكام العصر الجائرة.... بل ظلت تلح على أهلها، حتى نزلوا عند رأيها، وعهدوا بها إلى عالم ديني كبير، يلقنها التاريخ والأدب والعلوم الإسلامية.

وكان لهذا العالم أثره في حياتها، فرأينا إبتهاج في أوجها مزيجا من الكفاح والوقار، لا تحيد عن غابتها، عفة خالصة، واحتشام جهيل، وإيمان خالص بأكرم المبادئ  وأنبلها، لقبها الناس عن جدارة بالزعيمة المهذبة....

 

أول مجاهدة مسلمة:

وبينما كانت هدى شعراوي ترفع رأيه الجهاد في سبيل المرأة المصرية، كانت إبتهاج تفعل في بلادها ذات الشيء في الوقت نفسه، ولا صلة بين المجهدين. وكانت السورية المسلمة في مسيس الحاجة إلى من يأخذ بيدها نحو مكانة أفضل، ولكن وحدة لم تجرؤ على التقدم، خيفة أن يثور الرأي العام.... ثم انقشعت الغمة في عام 1914، عندما طلعت إبتهاج قدورة على المسلمات بنداء تهيب بهن فيه أن ينهض إلى محاربة الفقر، ويقبلن على الخدمة الاجتماعية.

وكانت جرأة لم تعهدها البلاد، فثآرت النفوس، وغلبت مراحل الغضب، وأشتد الهجوم على صاحبة الدعوة، حتى خافت النساء الاتصال بها، فهربن منها!

وحاولت إبتهاج أن تصل إلى قلوبهن، ولكن تهربهن قطع الطريق عليها، وعندئذ تحايلت على تحقيق مأربها، فأقامت وليمة نسائية كبيرة، لا ترمي في ظاهرها إلى هدف سوى اجتماعها بصديقاتها... وعندما أكتمل عقد السيدات، قامت صاحبة البيت فيهن خطيبة، واستعانت بكل بلاغتها في استنهاض هممهن إلى وجوب إثبات وجودهن.

وفعلت خطبتها فيهن فعلها، فأقسمن على معونتها، واشتركن معها في تأليف جمعية يقظة الفتاة العربية، وهي أول جمعية نسائية إسلامية في لبنان وسوريا

 

بداية لا نهايه:

وبهذه الجمعية تحقق حلم إبتهاج قدورة، ونزلت المسلمات السوريات واللبنانيات إلى ميدان الخدمة الاجتماعية " يخففن آلام المعذبين وينهضن بمستوى المحتاجين، وينشرن العلم في طبقات أذلها الجهل.

وبالرغم من النجاح الذي بلغته هذه الجمعية لم تقف إبتهاج عن جهدها البكر، إنما أتخذت منه قاعدة تتجه منها إلى آفاق أوسع وأعظم.. فأشتركت عام 1916 في تأسيس ملجأ للأيتام، يؤوي الأطفال الذين شردتهم أحكام الحرب العالمية الأولى.... ولكن الخدمة الاجتماعية على مسئولياتها الخطيرة لم تطفئ جذوة ولعلها بالعلم، فأتجهت مع جماعة من أكرم السيدات إلى رعاية الثقافة، وأنشأن عام 1917 ناديا نسائيا يحاضر فيه أبرع العلماء والأدباء والفنانين وتوالت جهودها بعد ذلك، ورسخ في النفوس فضلها، فدعيت إلى الأشتراك في تأسيس أهم الهيئات النسائية بلبنان، وأختيرت أكثر من مرة رئيسة لبعضها.

ولم تكن إبتهاج مصلحة اجتماعية فحسب، بل كانت أيضا مواطنة صالحة، يلتهب قلبها بحب بلادها، فأشتركت في الحركات السياسية كلها، ونزلت مع زميلاتها إلى الشارع يحاربن الفرنسيين أيام معركة التحرير، فكن بما فعلن فخر العروبة كلها.

وعندما خلت رئاسة الاتحاد العربي العام بوفاة هدى شعراوي، وتقابلت مندوبات الدول العربية السبع، لانتخاب من تحل مكانها، أجمع الرأي على إبتهاج قدورة دون غيرها، وأعترفن كلهن بأنها أكرم خليفة لهدى.

 

قدرة وفضل وشجاعة

وأشهد أنني ما رأيت كثيرات مثل هذه السيدة الفذة، التي تسيطر على الجماهير ببلاغتها، وتنتزع احترام الرجال بعلمها وكفاءتها وتسير إلى أخطر الغايات قوية القلب شجاعة.

ومن صور ثباتها وبسالتها ما حدث في العام لماضي عندما كانت مع الرجال في اجتماع سياسي عقد ببيت النجادة وكان أختلاف الرأي على أشده بين الأحزاب، فألقى أحدهم على الاجتماع قنبلة انفجرت فأصابت إبتهاج بجرح خطير في عنقها. وكان الجرح بالغا، ولكنها لم تشأ أن يحملوها إلى الخارج واختارت أن تسير على قدميها، وهي تطمئن الجماهير المنزعجة عليها بألطف العبارات وأجملها؟

وأشهد أيضا أنني ما رأيت في العروبة بلدا يقدر الفضل في نسائه مثل لبنان، فهذا الشعب الصغير في عدده كبير في روحه، قوي بتقدميته، صريح في مكافأة أخياره، ومن مظاهر خلقه هذا، ما حدث عند إصابة السيدة إبتهاج في حادث القنبلة، إذ ما كاد الخبر ينتشر بين الناس، حتى أقبلت الوفود على بيتها من كل الفئات والطبقات، فكنت ترى في غرفة نومها سائق السيارة وعامل المصنع والسياسي والمحامي والوزير، جميعهم يقفون جبنبا إلى جنب يواسونها ويكرمونها؟

وليس الأعتراف بفضل النساء، خلة الشعب وحده، إنما هو صفة مميزة للهيئات الحاكمة في لبنان، فما من حكومة إلا كرمت إبتهاج قدورة، وكان آخر ما جاءتنا به الأنباء في العام الماضي، خبر حصولها على أرفع وسام في الدولة، وتعيينها مع زميلتها الفاضلتين الين ريحان ولور ثابت أعضاء في مجلس البلدي الأعلى

ولا يدهشني أن يفعل لبنان هذا،فإبتهاج قدورة فخر لأعظم دولة!    

 

لست ممن يسرفون في عواطفهم،وقد عرفني الأقربون ضنينة بقلبي لا أفتحه إلا بعد طول خبرة وتجربة... ولكن إبتهاج قدورة فعلت ما لم يفعله غيرها، ونجحت بعد دقائق في استثارة محبتي وإعجابي بها، ونشأت بيننا صداقة خالصة أعتبرها أجمل ما أتيح لي من العلاقات الإنسانية الرفيعة

 

أراد الله بصداقتها أن يعوضني عن خسارتي بموت زعيمتي هدى

 

المصدر: أمينة السعيد - مجلة حواء
  • Currently 106/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
36 تصويتات / 1279 مشاهدة

ساحة النقاش

hawaamagazine
مجلة حواء أعرق مجلة للمرأة والأسرة المصرية والعربية أسسها إيميل وشكرى زيدان عام 1955، وترأست تحريرها الكاتبة أمينة السعيد، ومن يوم تأسيسها تواكب المجلة قضايا وهموم المرأة والأسرة المصرية والعربية. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

19,366,139

رئيس مجلس الإدارة:

أحمد عمر


رئيسة التحرير:

سمر الدسوقي



الإشراف على الموقع : نهى عبدالعزيز