قالت لى أمى وهى تلطم على خديها وتنتحب:
- أنا لم أر فى حياتى كلها من هو أكثر خيبة وعبطا وهبلا منك يا فلذة كبدى، وياابنتى الوحيدة التى خرجت بها من الدنيا!
وانهمرت دموعها الساخنة التى تؤلمنى وتقطع نياط قلبى فهى أمى التى كافحت وسهرت الليالى وضحت بكل رخيص وغال من أجلى بعدما مات أبى وأنا فى السابعة من عمرى إثر حادث أليم وكانت لى أخت صغيرة وكانت لا تزال (ترضع) ثدى أمى ومن شدة الصدمة على أمى وذهولها مما جرى لأبى فجأة، أهملت البنت الصغيرة التى أصابها المرض بالهزال وتوفت بعد فترة قصيرة بعد أن حاولوا علاجها!
صرت أنا الابن الوحيد لتلك الأم البائسة التى تعمل مدرسة عربى فى مدرسة ابتدائى حكومية وبعد وفاة أختى الصغيرة أصيبت أمى بحالة خوف وهلع علىّ خوفا من إصابتى بأى مرض يمكن أن يودى بحياتى مثل أختى الرضيعة!
كانت تخاف علىّ من الهواء الطائر كما يقولون وكانت تطعمنى بيديها ولا تأكل هى إلا بعد أن أشبع تماما وأحلى بفاكهة طازجة بعد الأكل ثم تدخلنى فراشى لأنام القيلولة ثم توقظنى بنفسها لكى تجلس إلى وتذاكر لى دروسى بنفسها!
كانت تلوم نفسها على أن حليبها (لبن ثدييها) قد جف عندما سمعت بموت أبى ورفضت الطفلة المسكينة أن تأخذ «البيبرون» أى الرضاعة الصناعية وربما تكون قد أصيبت بمرض آخر وماتت الصغيرة بعد وفاة أبى بشهر واحد!
أعود إلى حكايتى مع أمى وهذه الحكاية لابد أن أحكيها لكى يعرف الناس مدى ما تكبدته تلك الأم من مصاعب حتى أكمل تعليمى وأتخرج فى كلية الطب طبيبا جراحا له مستقبل واعد ومبشر!
ظلت أمى تراعينى بنفسها وكانت حينئذ فى الثامنة والعشرين من عمرها ورفضت كل من تقدموا للزواج منها وقالت إن حياتها مكرسة لرعاية ابنها الوحيد تقول ذلك ثم تختنق بالدموع وتنفر عروق وجهها وتنهمر دموعها وتقول:
- كفاية بنتى اللى راحت منى وأنا السبب!
واستطرد الدكتور مفتاح..
طبعا تتساءلين: كيف لمدرسة فى مدرسة ابتدائية أن يتوفر لها المال لكى تدخل ابنها كلية الطب المكلفة كثيرا؟
كانت أمى لا تكتفى بالوظيفة بل كانت تقوم بأشغال الإبرة مثل المفارش والستائر (والأوبيسون) وكانت تطهى قوالب الكيك بالزبيب والمكسرات وتبيعها للسوبر ماركت أما المفارش وكساء الصالونات الفاخرة فقد كانت تبيعه لمحلات الأثاث الكبيرة التى تقدر ذلك النوع من أشغال اليد وتدفع فيه مبالغ محترمة فضلا عن أننى تربيت على الرضا بالقليل والتحايل على المعايش كأن أقوم بتصوير المراجع من المكتبة وتوفير كل ما يمكن توفيره نظرا للظروف التى أعيشها!
ويستطرد الدكتور مفتاح..
تخرجت فى كلية الطب واخترت أن أكون طبيبا جراحا فلدى من الثبات والهدوء والإيمان بالله ما يجعلنى أثق بأن الله سبحانه وتعالى سوف يوفقنى لأنه أنقذ حياة من أقوم له بأية عملية جراحية وفعلا صرت موضع ثقة أساتذتى من كبار الجراحين فى قصر العينى وصاروا يعهدون إلى بالجراحات المهمة ولم يخذلنى مرة واحدة واشتهرت فى المستشفى بأن (يديه تتلف فى الحرير) علما بأننى لم أكن لأكتفى بدورى كجراح بل كنت أشرف على عملية التخدير وعلى تحاليل المريض ودراسة حالته المزاجية والمعنوية قبل الجراحة حتى أضمن - بإذن الله تعالى - أن تنجح العمليات وألا يضيع مجهودى هباء.
احتضنى طبيب كبير ذو اسم شهير ومعروف فى مصر وليس له مثيل فى براعته وسمعته الطيبة، وطلبنى للعمل فى مستشفاه الخاص فقبلت وبدأت العمل معه بمنتهى الإخلاص والتفانى وكان الأجر مذهلا، قولى يا سيدتى عشرة أضعاف مرتبى كموظف فى الدولة لأن مستشفاه ضمن ما يقولون عنه إنه مستشفى استثمارى وأسعاره غالية، لكن لمن يستطيع أن يدفع لأن الخدمة من الألف إلى الياء والتمريض وكل شىء أكثر من ممتاز إلى درجة أن أحد الأطباء الألمان زارنا ودخل غرفة العمليات وأنا أجرى إحدى الجراحات وشاهد بنفسه كل شىء وقال بالحرف الواحد:
- العمل هنا لا يقل عن أى مستشفى عالمى بل إننى أزعم أنه يزيد بل يتفوق عليه!!
واستطرد الدكتور مفتاح..
حتى الآن لم أدخل فى الموضوع الذى أتيتك من أجله فقد كانت حياتى كطبيب وقراءتى لكل أوراق جديدة فى عالم الطب ورعايتى لأمى التى صارت تشكو من بعض الأمراض كانت قد ألهتنى عن نفسى وحياتى الشخصية حتى صار عمرى 29 سنة.
ماذا حدث بعد ذلك ولماذا صرخت أم الدكتور مفتاح ولطمت خدودها.
الأسبوع القادم أحكى لك باقى الحكاية.
ساحة النقاش