الرداحون والرداحات
كتب :محمد الحمامصي
ما معنى كلمة الردح في لغتنا الشعبية؟ إنها تعني علو الصوت وسلاطة اللسان والكذب والافتراء والتضليل، أي تجاوز كل ما هو متعارف عليه من آداب وقيم وصدق، فكان الرجل أو المرأة تردح لجارتها أو زوجها أو أي شخص تتشاجر معه، فتضرب بكفيها مصفقة أو على صدرها، وتتقصع كراقصة فيما يتصاعد صوت سبابها ليصل للمارة والجيران، فيستيقظ النائم ويفيق صاحب الغفلة وينتبه السرحان، ليجتمع كل هؤلاء للفرجة على هذه المسكينة أو هذا المسكين الذي رماه قدره العاثر في طريق هذه الرداحة أو هذا الرداح.
ليس للردح أصول أو قواعد سوى المكسب والخسارة، مكسب تحطيم الآخر والانتصار عليه بتمزيق كيانه "ومرمطة الأرض به" ـ كما يقولون ـ والخسارة أن هذا الآخر ينكسر ويتحطم ثم ينزوي خجلاً أو خوفاً من أن يطاله عار الردح مرة أخرى.
لكن هذا الردح لم يكن يخرج إلى وقت قريب عن أماكن وأوساط بعينها، فقيرة لم تحظ بأي قدر من التعليم، وقد التقطت السينما والمسرح المصريين قديما وحديثا هذه الحالة كنوع من الفلكلور الشعبي وعالجتها في الكثير من الأعمال الكوميدية مثل مسرحية "سيدتي الجميلة"، حيث قدمت الفنانة القديرة شويكار نموذجاً للردح من خلال دور "صدفة بعضشي"، وفيلم "دهب" حيث شهدنا وصلة ردح بين الفنانة الصغيرة فيروز والفنانة القديرة "زينات صدقي" بعد أن ضربت الأولى ابن الثانية العبيط، وأخيرا فيلم "خالتي فرنسا" حيث أبدعت الفنانة عبلة كامل في تقديم عدة وصلات ردح.
تطور الردح واكتسب أشكالا وآليات ولغات وطرقاً جديدة، وخرج من أماكنه وأوساطه لينتشر في أماكن وأوساط أخرى يصعب تحديدها أو تسييجها كالسابق، ومع اندلاع هوجة الفضائيات والانترنت والموبايل في أواخر القرن العشرين وحتى الآن، تكّشف أن الردح أصبح مشاعا بين الجاهل الأمي والمتعلم المثقف، الفقير والغني، المسئول وغير المسئول، ليس خاصا ببولاق الدكرور ونهيا وكوبري الخشب ومنشية ناصر والدويقة، بل امتد إلى الزمالك والمهندسين ومدينة نصر ومصر الجديدة.
ما يحزن أن النخب لم تسلم منه، ونذكر جميعا وصلات الردح بين الكتاب والباحثين في برنامج الاتجاه المعاكس على فضائية الجزيرة، والذي قلدته كل البرامج الحوارية وبرامج التوك شو بعد ذلك، ليصبح الردح مدرسة يتم استقطاب أصحابها والدفع بهم في الصفوف الأمامية ـ متوفرون في كافة المجالات والتخصصات والأحزاب والاتجاهات والتيارات من السياسة إلى الاقتصاد ومن الثقافة إلى الدين وهلم جرا ـ ليتاجروا بإمكانياتهم في الردح ويتهجموا على هذا وذاك بالحق والباطل.
بل امتد الأمر للصحف والمجلات فكان النظام السابق يحرض مسئوليها ـ الذين كان يختارهم بعناية ـ للانقضاض وتشويه وطعن هذا الشخص أو ذلك ممن يعارضونه، لنرى كتابا وكاتبات تحولت مقالاتهم إلى وصلات من الردح، وإحقاقا للحق النظام السابق لم يبتدع جديدا حيث سار على هدى طريقة النظامين السابقين له مع المعارضين والمختلفين.
بالإمكان أن يضرب المرء أمثلة بنماذج لشخصيات مشهورة ومسئولة تحتل مواقع بالغة الحساسية هنا وهناك، لكن الأمر لا يستحق، فالناس جميعا يرونهم ويتابعونه ويكتشفونهم فيما هم يتصورون أن وصلات الردح التي يؤدونها بمهارة واقتدار تزيد من قوة حضورهم وتمنحهم الشهرة والأضواء والسلطة، غير مدركين أن الشعب المصري أستاذ ورئيس قسم في اكتشاف مثل هذه الأمور.
كلي أمل أن يتوقف السادة والسيدات نجوم ونجمات الردح عن متابعة وصلاتهم سواء على شاشات التليفزيون أو صفحات الجرائد والمجلات ومواقع الانترنت أو في هذا المكان أو ذاك، وليتذكروا أن كل الرداحين والرداحات الموالين لأهوائهم ومصالحهم مع هذا أو ذاك، والذين لم تكن تعني لهم مصر أكثر من سبوبة مؤقتة للحصول على المال والنفوذ والسلطة، خرجوا من التاريخ بخروجهم على المعاش أو رحيلهم عن الدنيا، متبوعين بالنسيان واللعنات، ليبقى أصحاب الكلمة المخلصة العاقلة، الطيبة المضيئة والصوت الهادئ الواعي المستنير جزءاً ًلا يتجزأ من تاريخ مصر المشرق في كل العصور.
ما هو آت لمصر آت ولن يعوقه وصلة رداح أو رداحة
ساحة النقاش