كتبت : هدى إسماعيل
تحفل سطور التاريخ بقصص العديد من المهن التى استطاعت أن تترك بصمات واضحة فى حياة كلا منا، البعض منها قد اختفى والبعض قد تطور بتطور الزمن، ولكن مازالت قصص هذه المهن تحيا بيننا شاهدة على عصرها كما هو الحال فى قصة الحلوانى والسقا التى نعيش معها فى السطور التالية...
لم يدرك الحلواني السويسري "جاكومو جروبي" أن لقبه سيصبح المكان المفضل لنجوم المجتمع والطبقة الراقية، عندما جاء جروبيإلى مصر قصد الإسكندرية وكانت الميناء البحري المستقبل للأجانب القادمين بعدها يحدد كل منهم وجهته، بعد فترة من العمل استمرت 6 سنوات افتتح أول محل لصناعة الحلوى والمعجنات والشيكولاته والآيس الكريم، وذاع صيته كواحد من أشهر صناع الحلوى في الإسكندرية ليفكر فى الانتقال لوسط البلد بالقاهرة،وافتتاح مقهى جروبي على طراز معماريأوروبي خاص يحمل صفات تختلف عن المحلات المجاورة له .
مقهي البشوات
خلال فترة قصيرة أصبح جروبي مقصد الطبقة العليا من الباشاوات ورجال الفكر والصحافة أمثال مصطفى أمينوكامل الشناوي وغيرهما الكثير،بالإضافة إلى رجال الفن، وفيه اكتشف يوسف شاهين عمر الشريف ليصبح ممثلا عالميا، ولم يكتف جروبي بالمكان الخاص به فى طلعت حرب لكنه اشترى مكاناآخر كفرع فى شارع عدلى بحديقة ومدخل خاصين .
ولم تكن محلات جروبى مجرد مكان للجلوس أو مقهى يقدم فيه الحلوى والمشروبات لكنه أصبح المسئول الأول عن الحفلات الخاصة برجال الطبقة العليا من تجهيز الحفل واستقدام الجرسونات بالزى الخاص وبشرتهم السمراء حتى أصبح عنوان لثراء صاحب الحفل .
ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل أصبح جروبي البوصلة في جميع الأفلام حيث ترددت جمل"حستناك عند جروبي، قاعد في جروبي، الحفلة في جروبي" في الكثير من الأفلام، بل وأصبح المكان نفسه بطل الأفلام كحلاق السيداتويوم من عمريوالعتبة الخضرا.
وبعد نجاح محلات جروبي بوسط البلد فكر الابن الأكبر "اكيللى جروبي" في افتتاح محليين أصغر لتقديم المعجنات باسم الأمريكيين في وسط البلد وانضم المحلان إلى إمبراطورية جروبي لصناعة الحلوى والمعجنات وملتقى الساسة ورجال المال وربما لم يفكر العامة دخول جروبى فى فترة سابقة،وعندما قامت ثورة يوليو لم يتم تأميم جروبي حيث كان مسئولا عن حفلات بعض الضباط وعلى علاقة طيبة برجال الثورةحتى بعد سقوط شبكة جواسيس عام 1960 تعمل لصالح الموساد والقبض على 10 جواسيس كان منهم أحد عمال جروبى "جورج استاماتيو"إلا أن جروبى ظل محتفظا بمكانه ومكانته دائما .
كناسة جروبي
على الجانب الآخر من ناصية جروبي وقف من يحاول الدخول والحصول على قطعة حلوى ولم يتمكن من تحقيق مساحة الحلم البسيط لكن دائما تبقى حيلة المصريين، فقد ابتكر المصريون اسم كناسة جروبي على البواقي من قطع الحلوى والجاتوهات التى يتم التخلص منها بإعادة بيعها حيث تجتمع فجر كل يوم بعض البائعات لشراء بواقى محلات الحلويات فى صاجات خاصة تحملها كل بائعة.
السقا مات
المعلم شوشة السقا بطل رواية يوسف السباعي«السقا مات» دائم الهروب من فكرة الموت، وعندما يستعيد عافيته الفكرية دائمة البحث عن الفناء ويتلقى خبر تعيينه شيخ السقايين ينهار الحلم على رأسه وينهدم البيت والسكن ويلقى الموت بين أحضان المعلم شوشة السقا/ مابين واقع السقا فى الرواية الأدبية والحقيقة فروق إنسانية وتاريخية.
عرفت مصر مهنة السقا فى عصر الخلفاء والفتح الإسلامي نظرا لصعوبة الحصول على الماء للبيوت والأسبلة والجوامع، لذا كانت الحاجة إلى وسيط يستطيع نقل الماء من النيل أو الآبار أو الخليج المصرى الذى كان يصب فى ترعة الإسماعيلية فظهرت مهنة السقا، حيث يحمل الرجل قربة مصنوعة من جلد الماعز المدبوغ،ويتم اختيار السقا بواسطة شيخ السقايين بأن يقوم الشخص المتقدم للوظيفة بحمل شوال من الرمل يزن 67 رطلا لمدة ثلاث ليال كاملة دون الجلوس أو حتى الانحناء أو النوم وبمجرد الانتهاء من الامتحان الأول يبدأ شيخ السقايين فى الاستعلام عن أخلاقه وصفاته ومعرفة سيرته الذاتية لينضم بعدها السقا إلى طائفة من الطوائف الخمس للسقايين فى مصر "طائفة حارة السقايين، قناطر السباع، تنقل المياه على ظهر الجمال، باب اللوق، باب البحر"، وبمجرد انضمام السقا إلى إحدى هذه الطوائف يبدأ في البحث عن السكن وهو عادة مايكون قريبا من مصادر المياه التى ينقلها فى قربته.
ولم تقتصر مهنة السقا على توفير الماء فقط لكنه أحيانا ما كان يقوم بدور رجل الإطفاء أو رش الدكاكين صباحا بالاتفاق مع أصحابها يوميا نظير الماء والكسوة السنوية، واعتبرت مهنة السقا من المهن المربحة لأصاحبها.
وبعد إنشاء شركة المياه 1865 أخذت مهنة السقا فى الاحتضار قليلاً لكنها لم تختف فقد ظلت في الكثير فى الأماكن العشوائية التى لم تصل إليها المياه بعد، وبقيت الحنفيات والأسبلة تسقى الناس، وظل الحارس على السبيل يطلق عليه المزملاتي.
ساحة النقاش