ما لا نعرفه عن الفتنة الطافية في مصر
كتبت :ايمان حسن الحفناوي
يخطئ من يؤرخ دائما بأن الفتنة الطائفية في مصر بدأت منذ أحداث الخانكة في بداية السبعينيات من القرن الماضي ...
وإذا كنا نريد أن نفهم حقا عمق ودلالة مايصيب الوطن من أحداث بين الحين والآخر، تحاول جاهدة أن تشق الصف المصري وتضرب الوحدة الوطنية في مقتل، فعلينا أن نبحث في تاريخنا عن جذور هذه الأحداث ونحللها ونحاول فهمها حتي نتمكن من علاجها، فالتشخيص هو أصل التحكم في الداء ... وقد حاولت في هذا البحث المتواضع أن أقدم ما توصلت إليه ، من خلال كتب التاريخ، وبعض المشاهدات مع محاولة تحليلها بشكل أمين وصادق، متوخية قدر الاستطاعة الحيادية التامة والشفافية المطلقة، وأسأل الله أن يشكل هذا البحث ولو طاقة نور صغيرة يمكننا من خلالها فهم المشكلة ... وقد شفعت البحث بالمراجع التي تم البحث خلالها راجية ربي أن أكون قد قدمت شيئا ولو بسيطا من أجل مصر
كل المؤرخين للفتنة الطائفية بمصر يتناولون المشكلة بوصفها أنها بدأت بحادثة الخانكة عام 72 ثم الزاوية الحمراء بداية الثمانينيات لنصل إلى حادثة الكشح عام 1999 ثم مشكلة وفاء قسطنطين 2004 ثم اشتباكات الإسكندرية 2006 ومنها إلى حادثة نجع حمادى يناير 2010 ، فتفجير كنيسة القديسين نهاية 2010 ، وتبدأ ثورة 25 يناير ليبدأ الاحتقان مع التعديلات الدستورية مارس 2011 لتظهر المرأة وتتهم بأنها مفجرة الفتنة ، حيث رأى بعض المراقبين أن نحو 75% من المشاحنات الطائفية خلال الأعوام من 2005 إلى 2011 استخدمت فيها المرأة بسبب تحولها الدينى وهو ما بدأته وفاء قسطنطين ، ثم كاميليا شحاتة... بعد ثورة يناير بدأت أحداث أطفيح ، ولكن هذه المرة سارت الأحداث بشكل عكسى حيث المتهم هنا رجل مسيحى وامرأة مسلمة ، لتتوالى الأحداث، ونصل لقرية ميت بشار وأحداث العمرانية... هل هذه هى الحقيقة؟
الفتنة الطائفية
بدأت قبل الإسلام
القاعدة المشتركة للفتن الطائفية عموما هى الصراع بين السلطة الدينية الحاكمة والدين كممارسة شعبية ، ومما هو معروف من تاريخ الأمم أن الفتنة لاتظهر إلا فى أيام ضعف الدولة وشيوع الفوضى والانحياز لجانب دون الآخر ، وعدم تطبيق القوانين الرادعة على الجميع.
وقد بدأت الفتنة الطائفية فى مصر قبل الإسلام بفترات طويلة ، والفتنة الطائفية فى مصر ، للمتتبع تاريخها ، تنقسم إلى نوعين : فتنة مصرية ثقافية متصارعة من دين وافد من الخارج مثل اليهودية والمسيحية ، وفتنة صراع داخلى للدين الواحد، كما حدث نتيجة مسيحية مصرية ومسيحية غربية أو إسلام شيعى وإسلام سنى.
لذلك نجد أن الفتنة فى مصر تاريخها طويل ، فقبل المسيحية ومن قبلها اليهودية كانت الأديان متعددة فى مصر بتعدد الآلهة ، إيزيس ، آمون ، رع ، ست... وكان التسامح هو سمة مصر، لذلك فشل «إخناتون» عندما حاول فرض ديانته بالقوة ، وفشل من بعده الرومان عندما حاولوا فرض عقيدتهم على أقباط مصر بالقوة أيضا.
الفتنة بدأت مع دخول اليهودية، حيث بدأ التوحيد الحقيقى ليصطدم مع التعدد الذى آمن به المصرى ، لكنها لم تكن قائمة بشكل قوى حيث استمر التنوع الدينى فى وجود الديانة اليهودية.
لكن مع دخول المسيحية فى القرن الميلادى الأول بدأت الفتنة الحقيقية ، حيث اقتضت الديانة الجديدة ضرورة نبذ تعدد الآلهة مما اصطدم بالواقع المصرى.
وكانت أولى وقائع الفتنة الطائفية فى مصر نتاج صعوبة التوحد الدينى مع الكنيسة فى ظل موروث شعبى يميل لتعدد الآلهة ، بالإضافة للضغوط الاستعمارية للاحتلال الرومانى.
وتظهر شرارة أول فتنة فى تاريخ مصر مع «أوريجانوس» الذى أعلن تمرده على السلطة الكنسية مما فتح الباب أمام حدوث انشقاق دينى محلى بين تعاليم الكنيسة وتعاليم الأديرة ، فكشف ذلك عن دور الحراك السياسى والاجتماعى فى مفهوم الدين عند المصريين ، وهو مايشبه الآن الصراع بين السلفية والوسطية.
وعاشت مصر أسوأ عصورها حيث قاسى أقباطها الويلات على أيدى الرومان حتى سمى «عصر الشهداء».. على الجانب الآخر كان القتال قد اشتد بين المسلمين والدولة الرومانية بقيادة أرطبون ، فزحف عمر بن العاص إلى مصر عندما علم بوصول أرطبون إليها حتى وصل إلى حصن بلبيس وتم قتل أرطبون وفتح المسلمون مصر.
وقد لاقى أقباط مصر القوات الإسلامية بارتياح كما تؤكد كل كتب التاريخ التى كتبت فى هذا الأمر ، وتحرر النصارى من اضطهاد الرومان على أيدى الفتح الإسلامى وأعاد عمرو بن العاص بطريرك النصارى «بنيامين» ، والذى كان قد هرب لسنوات فى الصحراء فرارا من الظلم الرومانى ، أعاده ابن العاص لكرسيه وتم وضع حد للمذابح والاضطهادات التى طالت الدين المسيحى وأنصاره وأتباعه.
يقول المؤرخ المسيحى يوحنا النقيوسى عن عمرو بن العاص : إحترم أملاك الكنيسة ولم يقترف عملا يعاب عليه ، فعاش أهل البلاد فى سلام دينى وتمتعوا بحرية العبادة ، وأعاد إنشاء الكنيسة الوطنية وأديرة وادى النطرون ودير الأنبا مقار ، وجاء الرهبان أفواجا يؤكدون إخلاصهم له كحاكم للبلاد.
واستمرت البلاد على هذا الوضع ، كل له دينه يسلم من يشاء ويظل قبطيا من يريد ، والسلام يلف الجميع فى ظل دولة قوية ينفذ فيها العدل على الجميع وتشيع فيها المساواة ويظللها التسامح.
إلى أن بدأت المشكلة الحقيقية ، وهى محاولة إشاعة الفتنة الطائفية بين المسلمين والمسيحيين على أرض مصر ، حدث هذا مع الهجمة التترية على يد «هولاكو» عندما عين (كتبغا نوين) قائدا على رأس جيوشه ، وكان نصرانيا ، وقد تم هذا العمل الخبيث كأول محاولة فى التاريخ الإنسانى للإيقاع بين مسلمى ومسيحيى مصر ، حيث اتجه هذا القائد للتأثير على النصارى فى الدول التى ينوى «هولاكو» غزوها ، وبالفعل تعاون معه نصارى الشام ، لكن نصارى مصر لم يقعوا فى هذا الفخ فباءت هذه المحاولة بالفشل.
ولكن يبدو أن هذه الفكرة الشيطانية ظلت تراود الغرب لتفتيت مصر ، فمع قدوم الحملة الفرنسية 1798 إلى مصر ، كان مدخلها العمل على استخدام الأقليات فى مشروع الهيمنة الاستعمارية ، عندما أعلن نابليون عزمه تجنيد 20 ألفاً من أبناء الأقليات غير المسلمة ، ليكونوا مواطىء أقدام وثغرات اختراق تعينه على بناء إمبراطورية استعمارية فى الشرق.
ولن ننسى نداءه للأقليات اليهودية فى العالم أثناء حصاره لمدينة عكا 1799 لتتحالف معه مقابل أن يساعدها على احتلال فلسطين. وللأسف انخدع «يعقوب حنا» وهو أحد نصارى مصر وجمع 2000 من النصارى فيما سمى (الفيلق الطبى) فيما اعتبره التاريخ خيانة للأمة والطائفة والكنيسة.
وعندما فشلت الحملة الفرنسية 1801 ماذا كـان عقاب «يعقوب حـنا» ؟ لا بـد الإعـدام أكيد !!! لم يحدث هذا فقد كان رد الدولة العثمانية على هذه الخيانة صدور فرمان العفو من الخليفة سليم الأول ، وعاد الوئام مرة أخرى ونسى المسلمون والمسيحيون جراحهم التى سببتها خيانة هذا الرجل ، فكتب التاريخ يؤكد أن المسيحيين فى مصر لم يقل حزنهم جراء هذه الخيانة عن المسلمين...
يؤكد وحدة الصف وعودة العلاقات القوية ماحدث عام 1845 عندما جاءت بعثات تبشيرية أمريكية لصعيد مصر ، فاتحد المسلمون والمسيحيون على قلب رجل واحد تحت قيادة السلطان العثمانى لمواجهة هذه الفتنة ، لتظل روح الإخاء والانتماء أقوى مما كانت.
لكن للمرة الثالثة تعاد المحاولات الخارجية لضرب استقرار مصر ، ولن يجدوا أفضل من شق الصف لتحقيق هذا المخطط... لقد كان زرع الفتنة هو معبر دخول إنجلترا لاحتلال مصر ، ولأنها لم تستطع استخدام أحد نصارى مصر لإخلاصهم لبلدهم ، فقد استخدمت أجنبيا مسيحيا يعيش بالإسكندرية ليمكنها من خلاله إذكاء الفتنة وإشعال الفتيل ، حدث ذلك فى الإسكندرية عام 1882 بعد مشاجرة نشبت بين «السيد العجان» وأحد الرعايا الأجانب (مالطى الجنسية) مقيم بالإسكندرية ، وأدت المشاجرة إلى أن طعن المواطن المصرى على يد المالطى ، فثار المصريون مسيحيون ومسلمون لمقتل المصرى ، وقتل عشرات الأجانب والمصريين ، ليتدخل الخبث الغربى فتوصف بريطانيا هذا الحدث على أنه «ذبح الأقليات النصرانية» ، وتحاول نفث سمومها داخل نصارى مصر ، وتتخذ من هذا ذريعة لضرب الإسكندرية بالمدافع ليتطور الأمر وتصبح مصر تحت الاحتلال البريطانى.
ثم يتضح بعد ذلك أن الحادثة كانت مدبرة من قبل وقوعها، وأنها من تدبير بريطانى بمساعدة بعض ضعاف النفوس من المصريين الذين سيستفيدون من دخول المحتل لمصر ، لكن المصريين أدركوا ما حاق بهم وأفاقوا وعادوا صفا واحداً وقلباً واحداً ضد محتل جثم على صدورهم 70 عاما.
وعاد اتحاد المصريين مرة أخرى بحيث أصبح أقوى وأعمق ، مما أثار حفيظة الإنجليز وأشعل جنونهم، فراحوا يضعون الخطط لكسر قلب مصر عن طريق إشعال الفتنة بين قطبيها ، فقد جاهد الإنجليز لنفث السموم بين طرفى الأمة ، ليبدأ أول صراع طائفى عندما عين الإنجليز بطرس غالى قاضيا. وهو الذى قضى فى حادثة كانت هى البداية الأولى لشق الصف وإحداث الشرخ الذى طعن المصريين وقتها ، وهى حادثة دنشواى وتم الحكم على أربعة مسلمين بالإعدام فى واقعة يستجير الظلم منها ، ولتصبح هذه الحادثة هى بداية الصراع الطائفى وتستقر فى التراث المصرى ، ثم يُقتل بطـرس غالى بعد ذلك... وفى سبيل إشعال الأمة شجع الإنجليز عـلى الطائفية، فأوعزوا إلى الأقباط بعقد اجتماع للمجلس القبطى فى أسيوط 1910، ثم يشجعون المسلمين على اجتماع فى القاهرة - لاحظ هذا التقسيم الخبيث ، أسيوط للنصارى والقاهرة للمسلمين - يشابه اجتماع المسيحيين ويقلل من أهمية مطالبهم ، ليأتى مصطفى كامل ومن بعده سعد زغلول والنحاس مشددين على الحقوق الكاملة للأقباط وفى المقابل مكرم عبيد داعيا لبث روح المحبة بين أبناء الأمة.
ونرى هذا جليا مع بدايات ثورة 1919، عندما تشكل وفد لمقابلة المندوب السامي البريطانى ، ثم تحول الوفد إلى حزب يحمل نفس الاسم ، ولم يكن قد ضم أقباطا ، فذهب كبار الأقباط إلى سعد زغلول يقولون إنه إذا كان مبدأ استقلال الشعب المصرى هو المطلوب ، فكيف يتشكل الحزب بـدون أقـباط ؟ وبـذلك أصبـح حزب الوفد هو حزب الأمة بضمه عنصريها ، لتحاول أحزاب الأقليات النيل منه عن طريق تأليب الشارع المصري عليه لتواجد الأقباط بقيادته.. وفى أعقاب اغتيال سردار الجيش المصرى بدأ تهاوى حزب الوفد إثر قبوله الإنذار البريطانـى، إلا أن مكرم عبيد جاهد لمواصلة الكفاح مما حفـز الجـهـود المضادة لضرب الوحدة الوطنية ، وصولا إلى تفتيت الحزب وهى المهمة التى قام بها أحمد حسنين رئيس الديوان وقتها فأحدث الانشقاقات المتالية التى أتت ثمارها للأسف.
الفتنة من الاحتلال البريطانى إلي عهد السادات
لا شك أن ما فعله الاحتلال البريطانى أثر على الوحدة الوطنية رغم ما ظهر من عمق العلاقة والمحبة أثناء ثورة 1919... ولاشك أيضا أنه بين الحين والآخر كانت تحدث بعض القلاقل لكنها كانت فردية ولا تمثل احتقانا يذكره التاريخ بعين القلق. وعندما جاءت ثورة يوليو 1952 توحد المصريون مرة أخرى آملين فى غد يحمل لهم القوة ، إلا أنه فى عام 1952 وبالتحديد فى الحادى عشر من سبتمبر تأسست جماعة الأمة القبطية وأعلنت عن مشروعها القومى الذى ينادى بحذف النص الدستورى الذى يقول إن الإسلام دين الدولة ، ثم المطالبة بالاعتراف بأن النصارى هم أصحاب الأرض ومصر نصرانية ولغتها الرسمية هى اللغة القبطية.
هذه المطالبات رفضها مسيحيون قبل المسلمين وكادت أن تسبب فتنة ، فقامت الدولة بحل هذه الجمعية فى أبريل 1954 وأحالت قياداتها إلى المحاكمة ، ومن نجا من المحاكمات فضل طريق الرهبنه ، وبذلك استطاعت الدولة القوية أن تقتل الفتنة فى مهدها حفاظاً على استقرار الأمة ، إلا أن هذا الحدث سبب احتقاناً خفياًعند البعض من الطرفين ، فكثير من المسلمين أصبح قلقا من هذه الأفكار ، وكثير من المسيحيين صار منقادا وراء تلك الأفكار... لكن كما قلنا قوة الدولة وقتها ووجود مشروع قومى يشترك فيه الجميع جعل الأمر تحت السيطرة.
وكانت العلاقة الجيدة التى ربطت عبدالناصر مع البابا كيرلس السادس شاهدا على استقرار مصر العقائدى وإحساس كل مصرى بأن الدين لله والوطن للجميع.
وفى العدد المقبل بإذن الله نكمل.. فنتعرف على ماحدث منذ عهد السادات وكيف تطورت الفتنة وماهى الأسباب
المراجع
1 - الفتنة الطائفية- د. راغب السرجانى .
2 - قصة التتار من البداية إلى عين جالوت- د. راغب السرجانى .
3 - تاريخ الرسل والملوك- ابن جرير الطبري
4 - البداية والنهاية- ابن كثير
5 - فضائل الصحابة- مسلم
6 - ودخلت الخيل الأزهر- محمد جلال كشك
7 - المسيحيون واليهود فى التاريخ الإسلامى العربى والتركى- فيلب فارج ويوسف كرباج
8 - المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل- محمد حسنين هيكل
9 - خريف الغضب- محمد حسنين هيكل
10 - الزعيم الثائر أحمد عرابى- عبدالرحمن الرافعى
11 - فى المسألة القبطية حقائق وأوهام- د. محمد عمارة
12 - الفتنة الطائفية- د. محمد عمارة
13 - الدراما التاريخية وتحديات الواقع المعاصر- د. محمد عمارة
14 - قصة الحضارة- وول ديورانت
15 - المصريون والمسيحية حتى الفتح العربى- د. محمد عبدالفتاح السيد
16 - الأقباط فى مصر والمهجر- رجب البنا
17 - يا أقباط مصر انتبهوا- د. مورو
18 - الكنيسة المصرية تواجه الاستعمار والصهيونية- د. وليم سليم قلادة
19 - تعدد الأديان ونظم الحكم- جورج قرم
20 - الملل والنحل والأعراق- د. سعد الدين إبراهيم
21 - تاريخ مصر- يوحنا النقيوسى
22 - الأقباط فى مصر والمهجر- رجب البنا
23 - سيكلوجية الجماهير- جوستاف لوبون
ساحة النقاش