ما هو الوطن ؟ هل هو البلد الذى ولدتَ فيه، أم البلد الذى عشتَ فيه آمنا وتمتعت بالصحبة الطيبة والأمن والتألق؟ سؤال خطر ببالى وأنا أعيد قراءة قصة حياة الأديبة العربية الراحلة مى زيادة, كانت بلدة الناصرة بفلسطين مسقط رأس ماري إلياس زيادة أو مى كما لقبت نفسها، أو فاتنة الأدباء وملهمة الشعراء كما لقبها المعجبون، لأب لبنانى وأم فلسطينية فى 11 فبراير 1886, وكانت لبنان مرتع طفولتها وبستان صباها حتى عام 1904, وكانت القاهرة الملجأ والملاذ والحلم لكل المثقفين العرب، فقرر والدها أن يهجر مهنة التدريس عام 1908م وينتقل إلى القاهرة ليصدر جريدة سماها «المحروسة»، ربما مجاملة للمصريين الذين سيصدر جريدته فى عاصمة بلادهم, ولكى تتعرف الفتاة الشامية الطموحة إلى كوكبة الأدباء فى مصر وصفوة رجالات العصر من المثقفين والسياسيين المصريين أنشأت صالونا ثقافيا ودعتهم إليه، فكان من الطبيعى أن يلبوا دعوة بنت رئيس تحرير "المحروسة" وأن يفتنوا بجمالها وأناقتها وثقافتها الواسعة رغم حداثة سنها, وقد تواصلت لقاءات صالون مى زيادة لمدة عشرين عاما، وأصبح الأشهر في العالم العربي وتسابق لحضوره أشهر أدباء وصحفيين ذلك العصر: «أحمد لطفي السيد, مصطفى عبدالرازق, عباس العقاد, طه حسين, شبلي شميل, يعقوب صروف, أنطون الجميل, مصطفى صادق الرافعي, خليل مطران, إسماعيل صبري, أمين الريحاني», ولم تكن مى تكتف بإمتاع رواد صالونها بالمناقشات الثقافية، فكانت تشنف آذانهم بالعزف على بعض الآلات الموسيقية التى تجيدها, وفى أثناء إقامة العائلة بالقاهرة افتُتحت جامعة فؤاد الأول التى ستسمي جامعة القاهرة فيما بعد، فكان من الطبيعى أن تتطلع مى الشغوفة بالقراءة والمعرفة للالتحاق بأول جامعة مدنية فى العالم العربى، ودراسة الفلسفة واللغة العربية وآدابها, ولا بد أنها أصيبت بصدمة بعد أن تظاهرالطلبة احتجاجا على "الغزو" النسائى للجامعة "الفرع النسائى" واستسلم المسئولون وأغلقوه عام 1912! اعتراض الطلبة الذكور على شغف شقيقاتهم للمعرفة ورغبتهن فى التعلم كان أمرا غريبا، ففى نفس الفترة ظهرت وتألقت فى الصحف المصرية العديد من الكاتبات اللاتى تصدين لمناقشة قضايا المجتمع وكن يقترحن أفضل الوسائل لحلها، ولتثقيف وتهذيب الفتيات، فنشرت نبوية موسى كتاب "المطالعة العربية"، وأصدرت لبيبة هاشم كتابها "فى التربية", وفى عام 1912م صدرت مجلة نسائية جديدة بالقاهرة برئاسة فاطمة توفيق باسم "الجميلة"، والتحقت نبوية موسى بمدرسة الحقوق التابعة لنظارة الحقانية أى وزارة العدل, وفى عام 1913م نشر الدكتور هيكل روايته الرائدة "زينب" التى كان يكتبها فى حلقات بمجلة الجريدة ودافع بحرارة عن حرية المرأة وهاجم الحجاب ولكنه وقعها باسم "مصرى فلاح"، وأصدرت سارة الميهية مجلة "فتاة النيل", وفى تلك الفترة بدأت السيدة الارستقراطية هدى شعراوى بنت محافظة المنيا نشاطها الذى سيتصاعد وينمو بتأسيس جمعية "الرقى الأدبى للسيدات المصريات" و"جمعية المرأة الجديدة" بمعاونة بعض أميرات الأسرة المالكة.
وإلى الأسبوع القادم لنكمل حكاية "فاتنة الأدباء وملهمة الشعراء".
ساحة النقاش