هدى إسماعيل

للمصريين عادات خاصة في رمضان اشتهروا بها، وميّزتهم عن غيرهم من شعوب المسلمين، ولكن جميع هذه المظاهر وإن تعددت فإنها تعبر عن إحساس واحد عميق نحو هذا الشهر، وهذا الإحساس في حقيقة أمره مزيج من الحب والتقدير والإجلال لذكريات عزيزة على قلب كل مسلمٍ ارتبطت بهذا الشهر، أكثر هذه العادات متوارثة عن أجدادنا في العصور الوسطى، ابتدأها الفاطميون وزاد عليها المماليك وظلت من بعدَهم تتوارث هذه العادات ويزيد عليها حتى يومنا هذا.

المعروف أن قدرًا كبيرًا من العادات والتقاليد التي تمسك بها المصريون في إحياء المناسبات الدينية العديدة ترجع أصولها إلى أيام الفاطميين، وهم الذين أسرفوا في إقامة الأنشطة في الأعياد والمواسم، وابتكروا ألوانًا من الطعام والحلوى ربطوا بينها وكثير من الأعياد الدينية، وكان من الطبيعي أن يحظى شهر رمضان بالذات بكثير من عناية الخلفاء الفاطميين ورعايتهم، فأسرفوا في ألوان الطعام والشراب فيه، وأكثروا من الزينات والأضواء في لياليه، وابتدعوا فيه عددًا من التقاليد المستحدثة التي ما زال بعضها باقيًا حتى اليوم.

أثر المماليك

بلغ الاحتفال بشهر رمضان ذروته من العظمة فى عصر سلاطين المماليك في مصر، وساعد على ذلك ما تمتعت به مصر في ذلك العصر من ثروة طائلة، فضلاً عن ضعف الخطرين الصليبي والمغولي في أواخر ذلك العصر، وقد وصف الرحالة ابن بطوطة طريقة احتفال المصريين في القرن الثامن الهجري برؤية هلال رمضان، وكان ذلك بمدينة إبيار، فقال:"إنه في يوم الركبة – وهو يوم ارتقاب هلال رمضان ويوافق التاسع والعشرين من شعبان – اجتمع فقهاء المدينة بعد العصر بدار القاضي الشافعي، وكان يقف على باب الدار نقيب المتعممين، فإذا أتى أحد الفقهاء أو الأعيان للقاء ذلك النقيب ومضى بين يديه قائلاً: «بسم الله سيدنا فلان الدين»، فيقوم القاضي ومن معه ويجلسه النقيب في موضع يليق به، وعندما يتكاملون هنالك يركبون جميعًا وعلى رأسهم القاضي ويتبعهم من بالمدينة من الرجال والصبيان حتى إذا ما انتهوا إلى موضع مرتفع خارج المدينة وهو مرتقب الهلال ينزل القاضي ومن معه يرتقبون الهلال، وبعد صلاة المغرب يعودون جميعًا وبين أيديهم الشموع والمشاعل والفوانيس، أما إذا حدث ارتباك بسبب كثرة السحب أو رؤية الهلال في بعض الجهات وعدم رؤيته في البعض الآخر فإن الحاضرين يكتفون بشهادة اثنين من الرجال، وبعد ثبوت الرؤية يوقِد التجار الشموع بحوانيتهم وتكثر الأنوار في الطرقات والدروب والمساجد وبذلك يتحول الليل نهارًا طيلة شهر رمضان.

منكر في صورة معروف

كانت قراءة صحيح البخاري بالقلعة من أهم المظاهر الرسمية لإحياء شهر رمضان في ذلك العصر، وقد جرت العادة أيام السلطان شعبان أن يبتدئ بقراءة البخاري في أول يوم من شهر رمضان بين يدي السلطان ويحضروا طائفة من القضاة والفقهاء، ولم يزل الأمر على ذلك حتى تسلطن المؤيد شيخ فجعل قراءة البخاري بالقلعة تبدأ من أول شعبان وتستمر حتى السابع والعشرين من رمضان، وزاد السلطان شيخ على ذلك أن دعا لحضور ذلك المجلس جمعًا كبيرًا من مشايخ العلم والطلبة، حتى زاد عددهم سنة 819 هـ على ستين فقيهًا «صرف لكل منهم ألف درهم فلوسًا» على قول المقريزي.

وقد دارت في هذه المجالس بحوث ربما اشتدت فيها المناقشات والجدل حتى يسيء بعضهم إلى بعض فينقلب المجلس إلى صياح وشتائم؛ مما جعل المقريزي يصف هذه المجالس بأنها «منكر في صورة معروف، ومعصية في زي طاعة»، وذلك نظرًا لما كانت تثيره من حزازات بين رجال العلم والدين، وقد عالج السلطان جقمق هذا الإشكال سنة 842 هـ بأن منع الحاضرين من البحث وحرم عليهم المناقشة أثناء المجلس، «فانكفوا عن ذلك والحمد لله»، فإذا تم ختم البخاري – وذلك عادة في الثلث الأخير من شهر رمضان – احتفل السلطان احتفالاً كبيرًا في القلعة، فترسل الخلع إلى القضاة والعلماء والفقهاء، وتوزع الأموال «والصور» على الناس.

الصدقة والإحسان في رمضان

اهتم سلاطين المماليك بالتوسع في الإحسان والصدقة طيلة رمضان، فالسلطان برقوق اعتاد أن يذبح طوال سلطنته في كل يوم من أيام رمضان 25 بقرة يتصدق بلحومها مع ما يطبخ من الطعام وما يخبز من آلاف الأرغفة على أهل الجوامع والخوانق والربط والسجون، بحيث يخص كل فرد رطل لحم مطبوخ وثلاثة أرغفة، وحاكى السلطان برقوق في ذلك من أتى بعده من السلاطين فأكثروا من ذبح الأبقار وتفريق لحومها.

أما المساكين والمعدومون فرتب لهم سلاطين المماليك في شهر رمضان مطابخ لإفطار الصائمين وتوزيع الصدقات عليهم، وقد بلغ عدد الطاعمين في هذه المطابخ أيام السلطان الظاهر بيبرس خمسة آلاف نفس في كل يوم من أيام شهر رمضان، كذلك اعتاد سلاطين المماليك أن يعتق الواحد منهم في شهر رمضان ثلاثين نسمة أي بعدد أيام الشهر، يضاف إلى ذلك كله أنواع التوسعة على العلماء وأصحاب المرتبات «الجامكيات» الذين يصرف لهم رواتب إضافية في شهر رمضان وبخاصة من السكر الذي كانت تتضاعف كمية المستهلك منه في هذا الشهر بسبب الإكثار من عمل الحلوى.

عامة الناس

لم تكن عامة الناس أقل احتفاء بشهر رمضان، فإذا تخلف فرد عن زيارة قريبه أو صاحبه أو معلمه في شهر رمضان أدى ذلك إلى سوء تفاهم بين الطرفين كما يذكر ابن الحاج، وعمد كثير من الناس إلى إحياء رمضان في الجوامع والمساجد بقراءة صحيح البخاري أو صحيح مسلم أو بالذكر أو بالصلاة لا سيما صلاة التراويح.

وجرت العادة في عصر المماليك أنه عند ختم القرآن بأحد المساجد في شهر رمضان يحتفل بذلك احتفالاً كبيرًا، فتقرأ القصائد ويجتمع المؤذنون فيكبّرون جماعة في موضع الختم، ثم يؤتى بفرس أو بغلة ليركبها القارئ الذي تولى قراءة الختمة، ويزفونه إلى بيته في موكب هائل، وأمامه القراء يقرأون, والمؤذنون يكبرون, والفقراء يذكرون، وربما أضاف بعضهم إلى ذلك ضرب الطبل والدف والأبواق.

المصدر: هدى إسماعيل
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 1079 مشاهدة
نشرت فى 6 إبريل 2023 بواسطة hawaamagazine

ساحة النقاش

hawaamagazine
مجلة حواء أعرق مجلة للمرأة والأسرة المصرية والعربية أسسها إيميل وشكرى زيدان عام 1955، وترأست تحريرها الكاتبة أمينة السعيد، ومن يوم تأسيسها تواكب المجلة قضايا وهموم المرأة والأسرة المصرية والعربية. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

22,887,600

رئيس مجلس الإدارة:

عمر أحمد سامى 


رئيسة التحرير:

سمر الدسوقي



الإشراف على الموقع : نهى عبدالعزيز