ابتسام أشرف
في ظل ما يشهده العالم من تغيرات متسارعة وتحديات متلاحقة، أصبحت مهمة تربية الأبناء أكثر تعقيدا من أي وقت مضي، لم يعد كافيًا أن نوفر لهم الطعام والملبس والتعليم الجيد، بل بات من الضروري أيضًا أن نمنحهم مناعة أخلاقية داخلية تحميهم من الانجراف مع أصدقاء السوء، وشخصية قوية لا تنكسر أمام مغريات العصر وضغوطه.
وفي هذا التحقيق نسلّط الضوء على تجارب بعض الآباء في تربية أبنائهم على القيم الأخلاقية والدينية، كما نطرح آراء نخبة من الخبراء في الصحة النفسية والتربية وعلم الاجتماع، لتقديم خريطة تربوية متكاملة تناسب تحديات العصر.
تروى نجلاء عبدالله، 42 سنة معلمة لغة عربية: أعلم أولادي أن الصدق لا يتجزأ، وأن الأخلاق لا تتبدل حسب المواقف، أزرع فيهم أن يكونوا على طبيعتهم حتى لو ضحك الآخرون، وأحدثهم يوميًا عن أهمية اختيار الأصدقاء، وأن الصديق لا يجرّك للخطأ بل يدفعك للخير.
أما محمد فتحي 38 سنة مهندس ميكانيكا فيقول: أنا حازم مع أبنائي في موضوع الالتزام الديني، لأن الدين هو العمود الفقري للأخلاق، أوضح لهم دائمًا أن الطموح لا يعني الغش أو الكذب أو القفز فوق الآخرين، بل السعي باجتهاد وأمانة، ولديّ قاعدة في البيت "مفيش كذب أبيض أو أسود.. الكذب كله سواء".
وتحكي فاطمة سعيد، ربة منزل: أتابع كل تفاصيل حياة أولادي، ومن أهم الأشياء عندي أن يعرفوا قيمة المال والجهد، لا أعطيهم كل ما يريدونه، وأشرح لهم كيف أن السرقة تبدأ من الطمع، وأقص عليهم قصصًا واقعية عن شباب سقطوا بسبب رفقة السوء، حتى يتّعظوا.
الحزم والاحتواء
ترى د. بسمة سليم استشاري الصحة النفسية والعلاقات الأسرية أن التربية السليمة تعتمد على الجمع بين الحزم والاحتواء، لا يكفي أن نُخبر أبناءنا بالقيم، بل علينا أن نُظهرها في تعاملاتنا معهم، فالطفل يتعلم مما يراه أكثر مما يسمعه، ومن المهم تعزيز ثقته بنفسه، فالطفل الواثق من نفسه لا يسعى لإرضاء الآخرين ولو كانوا أصدقاء سوء، كذلك، من الضروري أن نزرع في الطفل القدرة على اتخاذ القرار، والتمييز بين الخطأ والصواب دون تخويف، بل بإقناع.
وتقول: يتعرض الطفل في العصر الرقمي لرسائل متناقضة طوال الوقت، لذا فإن الحوار المستمر داخل الأسرة ضرورة، ويجب أن نخلق بيئة آمنة نفسيًا يُسمح فيها بالخطأ والتعلم، بدلًا من أن نخوف أبناءنا من العقاب، كما أن التربية الصحية تبدأ من الاحتضان، لا من الصراخ.
وتوضح استشاري الصحة النفسية أن أهم ما يبنى عليه الطفل نفسيًا هو الإحساس بالأمان، وليس الخوف من العقوبة، فالأمان يولد احترام الذات، أما الخوف فيصنع قشرة سطحية من الطاعة قد تنهار في أول احتكاك خارجي، لذلك، أنصح الأهل بالاهتمام بالحالة النفسية لأطفالهم بقدر اهتمامهم بسلوكياتهم الظاهرة".
المرونة الذكية
ترى نفرتيتي أحمد، الخبيرة التربوية أن أهم أسس التربية في العصر الحديث المرونة الذكية، أي أن يواكب الأهل العصر دون التنازل عن المبادئ كاستخدام التطبيقات التعليمية لتعليم القيم، أو المسلسلات الكرتونية كمادة حوار حول السلوكيات، فالتربية لم تعد تلقينًا مباشرًا فقط، بل مشاركة فكرية ونقاش مفتوح، وتحذر من التربية القمعية لأنها تصنع شخصيات مهزوزة تابعة.
وتقول الخبيرة التربوية: لا بد أن يدرك الأهل أن كل طفل له شخصية ووتيرة تطور مختلفة، ومقارنة الأبناء بالآخرين تقتل فيهم الثقة، لذا علينا أن نحترم فردية كل طفل ونغذي ما يميزه، وألا نطلب منه أن يكون نسخة مكررة من أخيه أو ابن الجيران، وعلينا أيضًا أن ننتبه لمسألة تعزيز الرقابة الذاتية لا الرقابة الخارجية فقط، فالتربية السليمة تُعلّم الطفل أن يختار الصواب حتى في غياب الأهل، وهذا لا يحدث إلا إذا شعر الطفل أنه شريك في القيم وليس مجرد تابع.
احذر البيئة المحيطة بطفلك
تقول د. هالة منصور، أستاذ علم الاجتماع: يلعب المجتمع المحيط بالطفل دورا أساسيًا، لذا يجب أن ننتبه لبيئة الطفل خارج البيت، كالمدرسة والشارع، وعلى الأهل أن يبنوا جسور ثقة قوية مع أبنائهم تجعل الطفل يُبلغ والديه فورًا إذا واجه خطرا أو إغراء، كذلك يجب إشراك الطفل في أنشطة اجتماعية تطوّر مهاراته وتعرّفه على نماذج إيجابية، لأن العزلة تدفعه أحيانًا لصحبة سيئة بحثًا عن الانتماء.
وتتابع: من المهم أن نُربي أبناءنا على المسئولية الاجتماعية، كأن نعلّمهم أهمية العمل الجماعي، واحترام الاختلاف، وخدمة المجتمع، فهذه التربية تصنع منه مواطنًا فاعلًا لا مجرد فرد ناجح أكاديميًا فقط، فالأسرة هي الوحدة الاجتماعية الأولى، وإذا اختل التوازن داخلها انعكس ذلك على شخصية الطفل، ولا يمكن أن نطالب الطفل بالهدوء إذا كان البيت مليئًا بالصراخ، أو نطالبه بالاحترام ونحن لا نحترمه، فالاتساق في السلوك الأسري أهم من آلاف النصائح النظرية.
ساحة النقاش