أبسط قواعد العدالة تحتم على الاعزب إذا إرتاحت نفسه لإمرأة فاضلة فتاة كانت أم أرملة أم مطلقة، أن يتزوجها بلا تردد، حتى يحفظ لها وقارها فى نظر الناس،و تحقق آماله العاطفية فى ذات الوقت

   
جاء لزياتى ذات صباح و هو فى ضيق شديد كان فى الثلاثين من عمره على وجه التقريب حركاته تنم عن الوقار و الاتزان.. أنيق الملبس، مهذب العبراة، خفيض الصوت و ارتاحت نفسى لرؤيته قبل أن أعرف عنه ما يبرر ذلك،و شعرت كما يبدو فى ظاهره طيب القلب يمكن الاطمئنان اليه...

    و أخذ يروى لى قصة حياته التى تصطد فى الوقت الحاضر بأشكال يثقل عليه..و لقد بدأت هذه القصة و هو فى السابعة عشرة من عمره، عندما أتم تعليمه الثانوى،و اضطرته ظروف المعيشة الى الانفصال عن أهله الكرام سعيا وراء الرزق فى العاصمة..و وجد العمل الذى يرضه،و لكنه لم ينشأ أن يترك دراسته فمضى فى طريقه يكد و يكدح فى الناحيتين، حتى لم يبق على نيله الشهادة سوى سنوات قليلة..و الجميل فى هذا الموضوع أن يعتزم الحصول على هذه الشهادة، رغم كونه يتقاضى من عمله مرتبا مجزيا،و مستقبله المهنى يبدو أمامه متفتحا،و أهله ليسوا فى احتياج الى معونة منه.

ثم هبت العاصفة
    و فى غمرة هذه الظروف المواتية، تقابل معها لاول مرة ببيت قريب عزيز عليه،و فهم من سياق الحديث أنها الاخت الصغرى لزوجة القريب،و قد غدر بها القدر و هى لا تزال فلا ريعان الشباب، فحرمها من زوجها بعد مرض لم يمهله أيام معدودات، تاركا لها طفلتين فى احتياج الى أكثر مما ورئتنا عن أبيهما الفقير..و لكن الام الشابة – لفرط أيامنها برسالة الامومة المقدسة،و بفضل رجاجة عقلها و حسن تصريفها للامور – عرفت كيف توازن دخلها و مصروفاتها،و تقسو على نفسها فى سبيل تهيئة أسباب الحياة الكريمة لبنتيها الصغيرتين.

    و وجد هو فى هذه السيدة المهذبة المكافحة كل ما يكسب المرأة احترام الرجل الفاضل الناضح، فرق قلبه لها،و شعر بضرورة وقوفه بجانبها لتذليل عقبات الحياة...

    و رآها بعد ذلك مرارا،و توطدت المعرفة،و لم يعد يتحرج من التردد على بيتها لكى يعاونها على تصريف أمورها ولا غرض يهدف اليه سوى تلبية دواعى الانسانية.

    و بتوالى تردده على الارملة المكافحة، أخذت جواهر فضائلها تتكشف له، فازداد اعابه بها،و امتلأ قلبه بالحب لها.. انما فى صمت و تعفف و هدوء.. لم يحاول يوما أن يصارحها بعواطفه الدفينة،أو يستغل وحدتها و احتياجها اليه، أو يخون أمانة الرسالة الانسانية التى حملها على عاتقه.

    و شعر من أسلوبها فى معاملته أنها تكن له ما يكنه لها، فازداد ارتباطه العاطفى بها،و تضاعفت احترامه لتحفظها و وقارها،و لم يعد يشعر بالارتياح الا و هو يجلس فى بيتها يداعب طفلتيها كما لو كانتا ابنتيه لا ابنتى رجل آخر...

    ثم هبت العاصفة على حين فجأة،و بعنف لم يكن يتوقعه فى يوم من الايام...
    و قد جاء ذلك على أثر خلاف نشب بين الارملة و جارتها،و احتدمت المناقشة بين الاثنين على أمر غاية فى البساطة فاذا بالجارة تطعنها فى شرفها مع هذا الصديق الكريم و ترميها باتهامات هى فى الحقيقة أبرأ الناس منها..و لم تكتف الجارة بهذا القدر من الضرر، فأمعانا فى الانتقام لنفسها طافت بكل من تعرفهم من أهل الحى تختلق لهم أقبح الافتراءات،و تروى لهم من أقبح القصص ما ليس له أدنى أساس من الصحة.. حتى سممت الجو،و جعلت من سمعة الارملة الفاضلة مضعفة فى أفواه الصغار و الكبار على حد سواء..

    و ازاء ذلك اضطرت الارملة الشابة الى اتخاذ اجراء حازم لرد الاذى عن نفسها، فكان أن طلبت من صديقها الابتعاد عن بيتها،و حرمت عليه تحريما تاما زيارتها و الاتصال بها....

    قال لى الرجل فى انفعال ملحوظ: (مارأيك فى هذا الجحود بعد أن تفانيت فى خدمتها و عملت ما وسعنى لمساعدتها على تربية طفلتيها؟.. أليس من التنكر لمبادئ الوفاء و الصداقة أن تنساق وراء الاكاذيب التى وجهت اليها، رغم أنه لم يصدر عنى ما يخل بالشرف تلميحا أو تصريحا، فتحرم على دخول بيتها،و تحرمنى من المكان الوحيد الذى أجد فيه غايتى من الراحة النفسية؟)

التمسك بأسباب العفة
    و الواقع أننى دهشت غاية الدهشة لكلامه،و عجبت كيف ينظر رجل ناضج مهذب مثله الى مشكلة كبيرة كهذه من أضيق زواياها،و لكنى فضلت أن أقدم له اجابتى على صفحات هذه المجلة، حتى يقرأها غيره من الرجال الذين تعميهم الانانية عن تقدير الاضرار التى يصيبون بها الاخرين،و رغم كونهم الجناة يتصور لهم أنهم المجنى عليهم...

    و هذا الرجل يعطينا بتفاصيل قصته صورة مجسمة للأنانية البريئة التى قد ينجم عنها من الاذى الاجتماعى أضعاف ما ينجم عن الانانية.. ذلك أن أصحاب العلاقات غير المشروعة يحرصون دائما على اخفاء أمورهم على الناس،و لديهم من الخبرة فى عالم التحاليل ما يمكنهم من ستر أسرارهم وراء مظاهر لا تثير الشك فى النفوس، الامر الذى يحقق لهم السرية التامة،و كثيرا ما ينجحون فى الحيلولة دون معرفة المجتمع بالحقيقة.

    أما العلاقات الشريفة البرئية فليس فيها ما يغرى بسترها و تكتمها،و لكون أصحابها مطمئنين تماما الى حسن نواياهم و سلامة اتجاهاتهم، نجدهم يفضلون السير تحت الاضواء فى علانية قد تعطى لذوى النفوس الشريرة الفرصة كل الفرصة للافتراءات و الادعاءات.. التى لا تقوم فى واقع الامر على أدنى أساس من الصحة،و لكن الظواهر الخداعة تؤديها فى اعتقاد من ينظرون من بعيد ولا يعرفون شيئا من بواطن الحقيقة.....

    و لقد قال الحديث الشريف عن حق: (من وضع نفسه مواضع التهم، اتهم ولا أجر له)...

    و مما لاشك فيه أن تردد أعزب فى مقتبل العمر على بيت أرملة فى ريعا الشباب دون وجود الرابطة المشروعة التى تحل ذلك،و بدون وجود أشخاص أخرين يشهدون على طهارة الجلسة.. مظهر غير كريم لا يتحقق به صالح السيدة التى تحرص على سمعتها، فمهما تنزه الغرض عن الهوى، فالمجتمعات ذت القيم الخلقية الراسخة، لا يمكن أن تطمئن الى هذه العلاقة المهزوزة فى ظاهرها على الاقل...

    و ليس هذا رأينا وحدنا، انما هى القاعدة المعمول بها فى كافة البلاد المتحضرة، حتى التى تمنح الجنسين من حريات الاختلاط قدرا كبيرا.. فالمجتمعات الغربية مثلا تدين المرأة التى تدخل بيت رجل أعزب،و تعتبر أن قبولها زيارة غير المتزوج بمثابة اعلان رضى مقدما عما يحتمل أن تتعرض له أثناء الزيارة..و الامر بالمثل فى تردد الرجل على امرأة وحيدة دون وجود مجموعة من الناس يعطون الاجتماع صفة البراءة المشروعة..

    و اذا كانت هذه فلسفة الشعوب المفرطة فى تحررها فما بالنا و نحن نعيش فى مجتمع شرقى له تقاليده و قيوده،و ليس احرص من أهله على التمسك بأسباب العفة شكلا و موضوعا؟

    ان الفارق بيننا و بينهم ضخم للغاية،و اذا حق عليهم هناك أن يتحفظوا قيراطا، فأن لزم علينا هنا أن نتحفظ أربعة و عشرين قيراطا.. أن أوضاعنا و أخلاقنا و مبادئنا و فلسفتنا لا تقر قيام علاقة بين رجل ناضج و أرملة أو مطلقة الا فى حدود السلامة و الطمأننة...

الخضوع لمنطق الحكمة
    و أنا لست أرمى بهذا الكلام الى المعارضة فى واجب الرجل الطيب ازاء امرأة فى محنة، فمساعدته لمثل هذه المسكينة هى بعض ما يتحتم أن تدفعه اليه شهامة الرجولة...و لكن العبرة بالاسلوب،و هناك من الوسائل الحكيمة ما يمكن الرجل من تقديم خدماته دون أن تترتب على ذلك أضرار أجتماعية...

    و مما يؤ سفنى أن أقوله بهذه المناسبة، أن كثيرين من رجالنا على قدر ضخم من الانانية، فلكونهم يعرفون أن مجتمعهم يسرف فى التسامح معهم،ولا يؤاخذهم على أى عمل يأتونه، عملا بالمثل الدارج الذى يقول: (أن الرجل لا يعيبه شئ) نجدهم يتهاونون فى مراعاة ظروف الطرف الاخر، غير عابئين بما ينال سمعة المرأة الفاضلة من الاذى نتيجة لثقتها بهم و اطمئنانها الى حسن نواياهم..و قلما نجد الرجل الذى يسأل نفسه قبل أن يكثر من التردد على بيت سيدة فاضلة: (ترى ماذا كنت أفعل لو كانت هذه المرأة أختى أو قريبتى؟) لو سأل الرجل نفسه هذا السؤال، لتكشف له الموقف على حقيقته،و استطاع أن يفكر بعقلية الاخرين و يخضع فى تصرفاته الحكمة الانسانية العادلة....

    و أبسط قواعد العدالة تحتم على الاعزب، اذا ارتاحت نفسه لامرأة فاضلة، سواء أكانت هذه المرأة: فتاة أم أرملة أم مطلقة،و وجد فى صحبتها ما تصبو اليه نفسه من الطمأنينة و السعادة، أن يتزوجها بلا أدنى تردد، حتى يحتفظ لها وقارها فى نظر الناس،و يحقق آماله العاطفية فى ذات الوقت....

    أما أن يصمم على أرضاء مزاجه دون مقابل،و يعتبر دفاع المرأة عن سمعتها جحودا لخدماته، فمنطق لا يتمشى مع أبسط قواعد الوعى الاجتماعى الضرورى فى بناء حياتنا الجديدة...





المصدر: أمينة السعيد - مجلة حواء

ساحة النقاش

hawaamagazine
مجلة حواء أعرق مجلة للمرأة والأسرة المصرية والعربية أسسها إيميل وشكرى زيدان عام 1955، وترأست تحريرها الكاتبة أمينة السعيد، ومن يوم تأسيسها تواكب المجلة قضايا وهموم المرأة والأسرة المصرية والعربية. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

19,365,998

رئيس مجلس الإدارة:

أحمد عمر


رئيسة التحرير:

سمر الدسوقي



الإشراف على الموقع : نهى عبدالعزيز