حدث ذلك فى بيتنا ذات مساء.. كنت صغيرة لم أتجاوز بعد الخامسة عشرة من عمرى... و مع ذلك فما زلت أذكر ما حدث،و مازالت تعيش حتى اليوم صورته فى ذهنى حية كاملة!

    كانت أسرتنا تستقبل بعض الزوار فى غرفة الصالون..و كان أحدهم يتحدث عن المرأة، عن حياتها و دورها فى المجتمع.. و سمعته يقول:
    (المرأة فى مجتمعنا عبارة عن صفر، لا أهمية له ولا حساب الا أذا أضيف الى رقم... ثم يتحدد كيانها و اعتبارها و أحترام الناس لها تبعا للرقم الذى وضعت جانبه.

    (و الدليل الحاسم على صحة هذا التشبيه، أن الناس حين يتحدثون عنها و هى فتاة لم تتزوج بعد – يقولون: (أنها أبنة فلان... الرجل الذى صفته كذا و كذا...) فأذا كان فلان هذا رجلا طيبا مرموق المكانة، فأن نصيبها من تقدير الناس نابع فى الاصل من تقديرهم و أحترامهم لوالدها!....

    أما بعد الزواج، فهى مجرد (زوجة فلان..) و تقدير الناس لها و رأيهم فيها نابع أيضا من رأيهم فى ذلك الرجل الذى تزوجها،و... هى و بختها!))

    و أثارنى هذا المنطق العجيب فى حديث ضيفنا....

    و لما لم يكن مسموحا لى بأن أشترك فى مناقشات الكبار،و خاصة الضيوف منهم، فلم أجد أمامى ألا أن أغادر الغرفة فى هدوء و احتجاج صامت!

    و أمتلأت تفسى، منذ ذلك اليوم بالثورة... ثورة أرادتى فى أن تكون لى فرصتى فى الحياة...
    و كلما مرت الايام أخذت هذه الثورة تنمو و تتجدد،و تدفعنى لان أمارس حقوقى حتى أصبح رقما، رقما كبيرا له حسابه،و ليس صفرا يوضع على اليمين أو الشمال...

ثمرة تجارب حياتى...
    و فى سبيل هذا الهدف جاهدت و كافحت و من حصيلة هذا الكفاح،و من رصيد التجارب فى طريق حياتى، تعلمت الكثير،و أكتسبت صفات نمت و أمتزجت بطبيعتى و أصبحت أعتز بها...

    تعلمت أن أحب الناس و أقترب منهم،و أفتح قلبى لمشكلاتهم..و تعلمت أنه لكى يجنى الناس، يجب أن ادأهم بالحب،و أن أحبهم،و اكتسب ثقتهم..و تعلمت أن أنظر الى جوهر الاشياء و أعماقها،و الا أفتر بالسطحيات و المظاهر...

    و تعلمت أن أذيب مشكلاتى فى دوامة العمل و ممارسة الحياة و الاهتمام بمشكلات الناس.. و تعلمت أخيرا أن العمل يتيح للمرأة نضج الشخصية،و يزودها بحصيلة متجددة من المعلومات و الخيرات،و يقربها من الناس فى مجتمعها و يساعدها على تحقيق سعادتها عن طريق أسعادهم...

    و هأندى، ياسيدتى، أضع بين يديك ثمرة كل ما تعلمت،و أفتح أمامك الطريق الى هذه الدنيا المليئة بالنشاط و الحيوية و الخير و نفع النفس و الناس.. دنيا العمل.

    لست أرضى لك يا سيدتى،و لن ترضى أنت لنفسك – أن تبعثرى أيامك فى فراغ،و الدنيا تتدفق بنشاط العمل و العاملات من حولك...

    أن مجتمعنا الاشتراكى الجديد، فى حاجة الى طاقة كل فرد يعيش فيه، ليشترك بنصيبه من العمل المثمر لخير نفسه و مجتمعه و وطنه الكبير.. فلا تقولى ، مثلا، انىى مجرد ست بيت لا معرفة لى بغير الاعمال المنزلية البسيطة،و تعليمى بسيط محدود، فماذا عساى أن أفعل!

    انك يا سيدتى، تستطيعين أن تفعلى الكثير، حتى ولو كنت كما تقولين فى صدق و تواضع جميل، مجرد ست بيت تعليمها محدود ولا المام لها بغير الاعمال المنزلية العادية البسيطة...

    ولن أحدثك هنا عن واجبك الاول، واجب ربة البيت فى تنظيم بيتها و تدير حياة أسرتها و تنشئة  أولادها على أسـس قويمة من مفاهيمنا الثورية الجديدة فى الاعتماد على النفس و الشجاعة و الاستعداد لحماية مكاسب شعبنا و حمل أمانة المستقبل....

أرادة التغيير فى حياتك..
    بل أنى لن أحدثك أيضا عما يمكنك أن تفعليه. سأقدم لك نماذج حية من مجتعنا الجديد، صديقات أعرفهن و أعتز بصداقتهن،و بعدها أترك لك طريق المستقبل مفتوحا أمامك لتختارى ما يعجبك و يناسب قدراتك و أمكانياتك فى العمل الذى تغيرين به مجرى الحياة الى حاضر أسعد و مستقبل أفضل...

    و سأبدأ معك بقصة حياة صديقتى (هدى)

    كانت (هدى) زوجة و أما و ربة بيت سعيدة، تعيش مع زوجها المهندس الناجح و أولادهما الثلاثة حياة ناعمة مستقرة... وفجأة،و بعد 15سنة من هذه الحياة الزوجية الناجحة، تحول عنها الزوج،و أحب فتاة لا تتجاوز الثامنة عشرة من العمر، ثم تزوجها و ذهب ليعيش فى بيت جديد، تاركا بيته الحقيقى و أسرته فى مهب الريح...

    أستيقظت (هدى) على هذه الصدمة المفاجئة المروعة... و بدأ واضحا أن حياتها لن تلبث أن تتحطم تماما، خاصة و انها لم تعمل من قبل بل و لم يتح لها أن تؤهل لعمل خارج نطاق حياتها كزوجة و ربة بيت...

    لكن ما حدث كان شيئا آخر غير ذلك، فبعد أيام مريرة من الاستسلام للتعاسة و اليأس و الدموع، بدأت تواجه واقع حياتها الجديدة أكربة أسرة لا عائل لها،ولا مورد تستعين به فى معركة الحياة.. و تبينت 0هدى) أن العمل الوحيد الذى تجيده هو الطهو.. طهو الاطعمة الشهية بأنواعها و ألوانها و أعدادها بدقة و براعة لاحد لها....

    و لم يكن من الممكن بالطبع أن تفكر مثلا، مجرد تفكير، فى أفتتاح مطعم، فأن هذا يحتاج الى رأسمال كبير،و هى لا تملك حتى ايجار الشقة التى تسكنها..و ذات يوم التقت بصديقة لها زوجة و موظفة، كانت تشكو من الارقاه الذى تعانيه بسبب خروج الطاهية التى كانت تعمل عندها.و اضطرارها للقيام بأعباء البيت و أعداد الطعام لاسرتها بالاضافة الى قيامها بمسئوليات العمل فى وظيفتها المرهقة....

    و ومضت الفكرة فى ذهن (هدى)... لماذا لا تقوم فى بطهو الطعام المطلوب فى بيتها و ترسله جاهزا الى صديقتها؟

    و وافقت الصديقة مرحبة بل و متحمسة.. تماما كما رحبت و تحمست بعدها صديقات أخريات، كان عددهن يتزايد يوما بعد يوم، خاصة و أن أطعمة (هدى) شهية و لذيذة،و أن النفقات أرخص بكثير، فضلا عما كيف تطهو و لكنها تعرف جيدا كيف تخرج بعمولة لا بأس بها من المبالغة فى أسعار المشتريات!

    و نجحت (هدى)،و النجاح يغرى، فبدأت تعد أكلات خاصة تقدم فى المناسبات و (العزايم)،و هى أكلات تخصصت و برعت فى أعدادها، مثل الملوخية البورانى،و الفراخ بالشركسية،و الكشك التركى و غيرها من الاصناف التى أصبحت عائلات كثيرة تطلبها من (هدى) و تستمتع بالاكلة المفضلة من صنع يديها!

    و الان... هاهى (هدى)، تعيش فى نفس المستوى الذى كانت تنعم به من قبل.. سعيدة بنجاحها و بانشغالها فى تلبية طلبات صديقاتها و عميلاتها انشغالا لا يترك لها لحظة فراغ تجلس فيها حزينة تنحسر و تبكى على الماضى الذى مضى!...

    أما الصديقة الاخرى (آمال)، فقد كانت هى أيضا ربة بيت تعيش لاولادها و وزجها الطبيب المكافح الذى يرهق نفسه بالعمل ليوفر مطالب الحياة لاسرته الصغيرة...

    و شاءت الاقدار أن يمرض الطبيب الذى اشتهر ببراعته فى شفاء المرضى،و أن يكون مرضه مستعصيا لا علاج له الا الراحة التامة و الصبر و الامل...

    و طال الصبر حتى استنفذت الاسرة الصغيرة كل ما تملك،و بدأت تواجه مصيرا يهددها بالضياع و الانهيار..و وجدت الزوجة نفسها تندفع لحماية بيتها و أسرتها بكل ما تملك من قوة و مقدرة،و لم تكن لها قوة أو مقدرة فى عمل يجدى، سوى براعتها فى التطريز و اشغال الخرز...

    و لم يكن الطريق أمامها سهلا معبدا،و لكنها كانت تدافع عن أعز مالديها فى الحياة...و بالاصرار و الايمان،و بالعمل و الانتاج و طوافها الشاق على المتاجر الكبرى و بيوت الازياء، أستطاعت أن تنجح،و ان تجد سوقا طيبة لانتاجها بأسعار طيبة مجزية...

    و اليوم،لا تزال الاسرة الصغيرة تعيش على الصبر و الامل فى شفاء رجلها الطبيب المريض..و لكنها،و بفضل شجتعة الام و كفاحها و انتاجها – تعيش حياة مسيورة مستورة فى مثل مستوى حياتها من قبل أن لم تكن أحسن!...

    و هناك صديقة ثالثة فاضلة، زوجها موظف بوزارة العمل،لا يكاد مرتبة يفى بكل احتياجات أسرته و مطالبها النامية..و مع بداية كل شهر و طوال ايام الشهر، كانت الزوجة الوفية تعصر ذهنها بحثا عن الطريقة التى تستطيع بها أن تخفف بعض العبء عن زوجها و تسهم فى رفع مستوى حياة الاسرة..و لكنها كانت مثل كثيرات من ربات البيوت فى مجتمعنا لم تؤهل للعمل و لم يسبق لها أن واجهت قبل الزواج ظروفا تدعوها للعمل.. وذات يوم كانت تزورها بعض الصديقات فى مناسبة سعيدة،و قد أعجبن كثيرا بما قدمت لهن من أنواع الحلوى و الجاتوه، أعجابا فتح أمام ذهنها أبواب الفكرة الجديدة، الفكرة المنفذة!....

    و لم تمض أسابيع حتى كانت قد عقدت عدة اتفاقات مع بعض الاسر الصديقة، على أن تصنع لهن ما يطلبن من أنواع الحلوى و البسكويت و (الغريبة) و الكعك البيتى اللذيذ..و من حسن الحظ أن هذه الاتفاقيات تمت قبل حلول عيد الفطر الفطر، فكانت مناسبة بديعة لتلبية كل الطلبات و زيادة الانتاج و الرواج.....

    و كانت صناعتها متقنة بديعة،و رخيصة التكاليف أيضا، فطارت شهرة الزوجة فى هذا المجال سريعا و أنتشرت فى مختلف الاوساط....

    و عندما زراتها فى الاسبوع الماضى، كانت تحتفل بمرور ثلاث سنوات على بدء هذا المشروع العظيم فى حياتها و رخاء أسرتها...و سألت عن الاحوال، فقالت لى و ابتسامة الرضا تملأ وجهها: (الحمد لله ألف حمد.. ربنا بارك لى بهذه الفكرة و أكرمنى... و دلوقت أنا أدخرت مبلغا لا بأس به،و فى نيتى أكمل و أعمل مشروع كويس، خصوصا و أن الاولاد ح يكونوا كبروا و يقدروا يديروا المشروع و يأمنوا بيه حياتهم و مستقبلهم..)
آفاق جديدة لحياة سعيدة...
و بعد، يا سيدتى...
    أن مجتمعنا الاشتراكى الجديد، مجتمع الكفاية و العدل، فى حاجة الى جهد كل طاقة انسانية تعيش فى جوانبه،و طاقات العمل البناء هبة يتمتع بها الرجال و النساء على السواء.., على ضوء هذا الوعى الوطنى السليم، يجب عليك يا سيدتى أن تعملى،و أن تحفزى غيرك للعمل من أجل بناء مجتمعنا الجديد، من أجل تنمية أقتصاديات بلادنا و رخاء حياتنا...

    أن أبواب العمل و الانتاج مفتوحة أمامك، و أمامنا كلنا،و ليس من الصواب فى مجتمع أشتراكى متطلع الى مستقبل أفضل، أن يعمل رب الاسرة فقط ليعول جميع أفراد الاسرة، الصواب أن يعمل كل قادر على العمل من أفراد الاسرة،و أن يكون له نصيب ايجابى فى رفع مستوى حياتها...

    هل يرضيك أن يكون فى بلدنا 7أو8 ملايين فقط يعملون، ليعولوا أكثر من 25مليونا لا يعملون؟....

المصدر: مجلة حواء

ساحة النقاش

hawaamagazine
مجلة حواء أعرق مجلة للمرأة والأسرة المصرية والعربية أسسها إيميل وشكرى زيدان عام 1955، وترأست تحريرها الكاتبة أمينة السعيد، ومن يوم تأسيسها تواكب المجلة قضايا وهموم المرأة والأسرة المصرية والعربية. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

22,859,876

رئيس مجلس الإدارة:

عمر أحمد سامى 


رئيسة التحرير:

سمر الدسوقي



الإشراف على الموقع : نهى عبدالعزيز