أحلام مصرية 2012

لحظات قليلة هى الفارق الزمنى بين عام وآخر يليه .. بين الواقع والحلم .. وعلى عتبة عام جديد نحمل فى قلوبنا صندوق الأمنيات .. بعد ما يتحرك العقرب الكبير ليعانق أخاه الأصغر على ساعة جدار ، نجد أنفسنا دون أن نشعر وقد حّملنا العام الجديد أمانة نضعها بين يديه ، نريد أن نغفر خطايا العام المنصرم لنبدأ صفحة جديدة يطرق أبوابها ، أمل حذر لكنه ابن شرعى لخفقات قلوبنا >>

وما مررنا به من أحداث متلاحقة فى عامنا الذى يودعنا أيقظ فينا طاقات الحلم أكثر ، حتى مع زيادة الإحباط لدى كثيرين ، فمن رحم الإحباط يولد الحلم ، قد يولد مشوهاً ، أو غير مكتمل النمو ، لكنه يولد لا محالة .. فى محاولة اقتراب من منطقة الحلم كانت لقاءاتى مع قلوب تحيا بيننا .

لاحظت أن حجم وشكل الحلم اختلف كثيرا هذا العام خاصة لدى الشباب ، الحلم صار يحمل اسم مصر ومستقبلها ، مصر احتلت شكلا بارزا فى حلم الشباب بعد ما كانت مجرد خلفية باهتة لابد من وجودها كما توجد خلفية لصورة نلتقطها لنضعها فى جواز سفر ..

بحلم بمصر

مثله كثيرون .. محمود شاب فى العشرين من عمره ، طالب بكلية حقوق عين شمس ، يحلم أن يجد لنفسه مكانا لائقا فى بلد يحبه .. يقول «كنا كشباب نحلم كل عام .. نحلم أن ننجح ، نحلم أن نحقق الخير ، نحلم بمستقبل أفضل ، لكن قبل الثورة لم نكن نحدد هذا المستقبل إلا بأحلام فردية تخص كل واحد منا ، أيام الثورة طغى القلق على الأحلام ، توحدت المشاعر ، خفنا على مصر، اكتشفنا أننا كنا نعيش فى كابوس فحلمنا أن نتخلص منه .. وبعد نجاح الثورة فرحنا ، تصورنا أن مصر صارت أفضل ، ونشأت منظومة جديدة أسميناها وقتها بورصة الأحلام ، لكن بعد فترة من الاضطرابات اكتشفنا أن واقعنا لم يكن فى مستوى أحلامنا لكن ماتبقى لنا أننا مازلنا نحلم بحلم مشترك وهو مصر .. نريدها أجمل ..

بحلم على قدى

رغم أننى وجدت معظم الشباب يحلمون مثل محمود وقد تركز حلمهم فى ثلاثة أحرف وهى «مصر» إلا أن فتيات كثيرات حملن نفس الحلم لبلدنا وأضفن له أحلامهن الخاصة .. الوظيفة ، بيت صغير ، طفل جميل .. أدركت من هذا أن الفتاة تحمل حلمها العام لكنها لاتنسى أبدا حلمها الخاص والذى يصب مباشرة فى تنمية وطنها .. رحمة وأمل وداليا كلهن يحلمن هكذا ..

آسف على الأحلام

شاب بسيط من شباب مصر، مكافح ، يعمل سائقا .. عندما سألته ماذا جهز من أحلام للعام الجديد تعجبت من إجابته .. قال «أحلم ؟! لن أحلم ، فالحلم هو سبب شقائى ، الحلم فخ كبير أنصبه أنا لنفسى ، والذكى لاينصب الفخاخ لنفسه ، أنا حلمت أن يكون لدى شقة ، وقالوا هناك إسكان شباب ، تقدمت ودفعت ألف جنيه حجز وصدقتهم وحلمت ، كان هذا قبل الثورة ، صبرت وصممت ألا أتخلى عن حلمى خاصة إننى لا أملك الثلاثة آلاف التى دفعها صديقى رشوة .. وقامت الثورة ، تضخم الحلم وقلت سآخذ حقى أصبحت الرشوة عشرة آلاف جنيه يعنى قبل الثورة كانت أرخص ! ..».

هذه النظرة القاتمة التى يغذيها واقع مرهق ، استطاع شاب آخر أن يقهرها ، عبدالصمد هو أيضا شاب فى العشرين من عمره ، فى أحد الأحياء الشعبية البسيطة جدا يقف عبدالصمد على «عربة فول وطعمية» ! تعجبت ، كيف يضع الفول فى أطباق ويتناول أقراص الطعمية يلفها فى قرطاس من الورق ؟ كيف استطاع أن يجمع محبيه على وجبة فول وطعمية ؟ مالم أكن أعرفه أن عبدالصمد ليس مجرد بائع للفول والطعمية لكنه يدرس فى كلية الآداب ! ..

يقول : «لم أولد ضريرا ، كنت صغيرا فى العاشرة وكانت أمى تصر أن أواصل تعليمى رغم ما تتحمله من أعباء ، أمى كانت تعمل خادمة ، توصلنى مدرستى أنا وأختى وتذهب للحاق بلقمة العيش ، تمنيت أن أكبر وأحمل الهم عنها ، وذات يوم وأنا أعبر الطريق مسرعاً صدمتنى سيارة ، كدت أموت ، أيام فى المستشفى لأخرج حيا لكن ذهب نور البصر، تصورت أن حياتى قد انتهت ، الحمد لله كان الله رحيما بى وبأمى ، ساعدتنا عائلة كانت أمى تعمل لديهم وتم تحويلى لمدرسة تناسب وضعى الجديد ، إصرار أمى جعلنى أحاول أن أجد النور الذى حرمت منه ، والأن أدرس بالجامعة وعلى وشك التخرج وأجمل لحظاتى هى التى أقف فيها كل صباح على عربة الفول والتقى بأحبابى .. أمى هى التى تعد الفول وأقراص الطعمية الشهية وأنا أساعدها فى البيع ، وفى العاشرة صباحا نكون قد أنهينا مهمتنا فتذهب هى إلى عملها وأمارس أنا حياتى.

قلت له : وهل تحلم ؟

قال : إذا لم يكن هناك حلم فلا داعى للحياة ، أحلم أن يعم الخير مصر ، أحلم أن أستطيع حمل العبء عن أمى ، أحلم أن يظل النور بداخلى لاينطفىء .

حكاية عم صبحى

فى أحد الأحياء العشوائية ، وبالتحديد فى الهجانة ، يجلس هناك فوق رصيف تجعد أرهاقا وإهمالا ، جلسته عجيبة فهو يستند إلى عصاه يضع يديه فوقها ، وفوق يديه يستند رأسه ، ونظرته سارحة فى ملكوت الله .. «عم صبحى» .. هكذا يطلقون عليه ، اقتربت منه ، تجاذبت معه أطراف حديث وكأنه كان ينتظر أن يهتم به أحد ، أن يسأله أحد عن أى شىء ، يجيبنى وهو فى نفس جلسته لم يغيرها ، حتى نظرته للمجهول لم تتغير .

يقول : «أحلم ؟ الحلم ده وظيفة إنسان عايش ، لازم تعيش عشان تحلم» .

قلت : «بس أنت إنسان وعايش» .

قال : «إنسان آه ، لكن عايش دى فيها كلام ..

أنا عمرى ما حلمت ولا أستجرى أحلم ، ده شىء كبير قوى ما نقدرش نوصل له» بقى أن تعرفوا أن عم صبحى هذا رجل فى الستين من عمره له خمسة أولاد ، ثلاثة منهم أنهوا تعليمهم الجامعى رغم الظروف الصعبة ، وكل من ينهى تعليمه يحجز مكانه فى البيت الصغير فلا يوجد عمل .. عم صحبى هذا يقضى يومه بشكل عجيب ، فهو يصحو مبكرا ليلحق بالعربة الكارو التى تقل أهل الحى لمكان بعيد حيث يحصلون على الماء ، فلا ماء فى بقعتهم ، وتظل عجلات الكارو تترنح على طريق طويل وعم صبحى يحمل الأوعية إلى أن يصل إلى صنبور الماء فيقف فى طابور منتظر حصته .. يعود بيته وقد صارت الساعة بعد الثانية عشرة ظهرا لينتظر ساعة أخرى حتى يستقل عربة كارو أيضا ليقف فى طابور الخبز .. ويأتى البيت منهكا لينام بعد العشاء .. سألته لماذا لا يذهب أبناؤه لإحضار الماء والخبز .. عرفت منه أن الأبناء كل يوم فى رحلة البحث عن عمل، يوم يجدون ويوم أخر لاتسنح الفرصة !

لازم نحلم

وأنا أتحدث مع عم صبحى الذى لم تتغير جلسته طوال حديثنا ، كانت ترمقنى سيدة شابة هوت بمنفضة الغبار على بساط مهترىء تنظفه فوق سور من الطوب الأحمر المتهالك .. أحسست أن هذه السيدة تحمل أملاً ، فرغم ظروفها ورغم بشاعة البساط ، تقف مبتسمة وتنظفه .. ويبدو أنها التقطت اهتمامى بتواجدها ، استقبلتنى بابتسامة جميلة وطفلها يشدها من ملابسها ..

أم فتحى .. أم لثلاثة أطفال وزوجها يعمل سائقا على ميكروباص .. سألتها ، هل تعرف أن عاما جديدا سيطل علينا ..

قالت «طبعا أمال إيه ، سنة جديدة سعيدة بإذن الله» .

قلت : «عندك أحلام للسنة الجديدة يا أم فتحى ؟» بابتسامتها الجميلة قالت :

«هو فى حد مابيحلمش؟ طبعا لازم نحلم طول ما ربنا موجود وهو اللى هيحقق لنا حلمنا .. أنا ست غلبانة وجوزى راجل على قده ، لكن بحلم ربنا يسترنا ، ولأننا ناس غلابة وما تعلمناش قلنا نحلم لأولادنا ، بعلمهم ولازم يبقوا ناس مهمين فى الدنيا وساعتها تتغير حياتهم ويبقى حلمنا اتحقق .. بس نقول يارب».

جعلتنى أم فتحى أحمل الأمل بين ضلوعى .. فعلا الإنسان ابن حلمه .. وقد قال سيدنا المصطفى- صلى الله عليه وسلم- «تفاءلوا بالخير تجدوه» ولابد أن نعارك الحياة لأننا جزء من اللعبة ومن يرضى أن يصبح خارج الإطار فقد خسر كثيرا ..

من التحدى يولد الإصرار ، ومن الإصرار تتبدل الأشياء ، لست أدرى لماذا وأنا عائدة من رحلتى هذه «رحلة قلوب تحلم» .. تذكرت كلمات أغنية جميلة أحبها.

«اليأس ضعف وخوف جبان

لكن الأمل يفتح ببان

يا تكون قد الحياة

يا تعيش وحيد وسط الدروب

حلى مرار الايام لسا الحياة قدام

قوم لون الأحلام

وأوعى ماتضحكش

وكل عام وأنتم بخير

المصدر: مجلة حواء
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 538 مشاهدة
نشرت فى 29 ديسمبر 2011 بواسطة hawaamagazine

ساحة النقاش

hawaamagazine
مجلة حواء أعرق مجلة للمرأة والأسرة المصرية والعربية أسسها إيميل وشكرى زيدان عام 1955، وترأست تحريرها الكاتبة أمينة السعيد، ومن يوم تأسيسها تواكب المجلة قضايا وهموم المرأة والأسرة المصرية والعربية. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

22,820,545

رئيس مجلس الإدارة:

عمر أحمد سامى 


رئيسة التحرير:

سمر الدسوقي



الإشراف على الموقع : نهى عبدالعزيز