الطريق محفوف بالمخاطر

أنقذوا مصر قبل أن يأكلها الخوف

كتبت :ايمان حسن الحفناوي

إذا كان الخوف كما يقول علماء النفس شعوراً طبيعياً أو ضرورياً للحفاظ علي الحياة، فعلم النفس أيضا يؤكد أن زيادة جرعة الخوف إنما تؤدي للسلبية المرضية والانسحاب من الحياة على أرض الواقع، وهو ما يشبه الانتحار الاجتماعي، حيث يصبح الإنسان ميتا حيا، فلا هو الذي صار مع الأموات واستحق العزاء، ولا هو الذي ظل حيا وشارك في البناء.. لكن في دراستنا للخوف لابد أن ننتبه إلي إشكاليتين على درجة كبيرة من الحساسية، ألا وهما شخصية الإنسان الخائف وتاريخه مع الخوف، ثم وضعه بعدما يتخلص من هذا الخوف، وبالتزامن مع إدراج هاتين الإشكاليتين لابد أن نضع في اعتبارنا درجة الخوف التي يتحملها هذا الإنسان.. وإذا طبقنا هذه الرؤية على حالة المصريين قبل ثورة يناير وبعدها، سيمكننا أن نرى الأمر بوضوح، لاسيما أننا في خلال 15 شهرا هي عمر الثورة، واجهتنا تغيرات شتى على صعيد تعامل المصري مع خوفه 

إذا اعتبرنا أن الخوف سجن كبير يعتقل الإنسان بين براثنه، فتاريخ المصري مع الخوف طويل، ويمر بفترات تضاغط وتخلخل، حيث نجد المصري في بعض فترات حياته سكن تماما للخوف واستكان حتى صار لعبة في يد حاكمه الإله، وهو ما عبر عنه الله عز وجل في كتابه الكريم عندما تحدث عن الفرعون "فاستخف قومه فأطاعوه"، هكذا يصبح حال الخائف المرتعب حيث يخف وزنه ويصبح أداة سهلة طيعة في يد من يخيفه. ويبدو أن حكام مصر على مدى عصور كثيرة كانوا يعرفون النظرية التي تقول "إن الشعوب عندما تخاف تقبل الظلم" لذلك حرص كثيرون منهم على إخافة هذا الشعب الأصيل، واعتمدوا على خاصية مهمة تميز المصري وهي صبره على المحن ومحاولة تكيفه مع واقعه مهما كان هذا الواقع مرهقا. وعلى مدى التاريخ الطويل للمصري نجده يصبر حتى الثمالة ثم في لحظة فارقة يثور وينفض عنه ذل الاستكانة محققا صدمة عنيفة لمن يحكمونه ومصمما على تحقيق ذاته بعدما كادت تضيع.. المشكلة أن من يتعامل مع هذا الشعب لا يدرك أن صبر المصري له درجة معينة، وهي درجة التشبع التي عندما يصل إليها يشعر أنه مهدد بالانقراض فيثور ويرفض، ويأتي رفضه قويا طوفانيا صادما، لأنه على قدر استكانته تأتي ثورته.

إذا تغاضينا عن تاريخ المصري مع صبره وخوفه وثوراته في العصور الماضية، يمكننا هنا أن نتطرق لما حدث للمصريين في عصرنا الحديث، وبالتحديد منذ ثورة يوليو 1952، لقد جاءت الثورة لتعطي المصري أملا بأنه سيحكم نفسه، فتاريخه يقول إنه كان لفترات طويلة تحت حكم الغرباء، وأنه تسامح كثيرا في هذا الأمر طالما أن من يحكمونه يراعون مصالحه ومصالح وطنه، لذلك جاءت ثورة يوليو تحقق الأمل أن يعود حكم المصري لذاته، مما جعل المصريين يلتفون حول هذه الثورة ويباركونها بكل ما لديهم من مساندة.. وما زادهم إيمانا بثورتهم أن يحكمهم واحد من جيشهم، حيث أن الجيش المصري بالنسبة لأي مواطن على أرض الكنانة يعني الحماية والثقة والمواطنة الحقة.

فرح الناس بالثورة وباتوا يحلمون بجني الثمار لاسيما أن قائدها قد عمل على مشروع وطني يجمع كل المصريين تحت مظلته، صدق المصريون الثورة وآمنوا بأهدافها وتغاضوا عن سلبيات كثيرة بدأت تظهر في الأفق، لماذا؟.

إذا رجعنا لما قاله علماء النفس عن شخصية المصري سنعرف أنها أسيرة ثلاثة ثوابت لا تقبل التفريط فيها، هذه الثوابت هي الدين والتاريخ والفن، فالدين هو الملجأ والملاذ منذ عهود الفراعنة، والتاريخ هو الهوية والإحساس بالذات والانتماء للبلد، والفن هو الحياة والتكيف مع الواقع وهو ما أكسب الشخصية المصرية نعومتها وتفتحها وتقبلها للآخر على مر العصور.

إذا فهمنا عمق تواجد هذه الثوابت الثلاثة في نسيج الشخصية المصرية سندرك فورا أن أي مساس بها يوجد الخلل وبالتالي الصراع الذي يؤدي بالمصري لضرورة إيجاد الحل له حتى يتمكن من البقاء حيا.

هذا ما يفسر لنا تغاضي المصري عن سلبيات ظهرت بعد ثورة يوليو، فقد أصاب عنصر الدين بعض الخلل، لكن بقى عنصران ينعمان بكل التنمية والازدهار وهما التاريخ والفن، فعبد الناصر كان يعمق مفهوم المواطنة والقومية العربية والعزة المصرية بما يتفق مع إنعاش العنصر التاريخي الذي وجد إشباعا هائلا تمثل في اعتزاز المصري بوجوده واحترام العالم له، أيضا تمت تغذية عنصر الفن بشكل جعل مصر رائدة في هذا المجال، وبهذا يكون قد تم تعميق عنصرين ليتبقى عنصر الدين فيحاول المصري تغذيته بشكل فردي، وهو ما سيصبح بعد ذلك بداية للفكر المتطرف تساهلا أو تشددا، لأنه تم السماح له بالترعرع بعيدا عن التوجيه العلمي السليم.

وإذا تخيلنا أن مصر حتى تستقر لابد أن ترتكز على ثلاثة أرجل متمثلة في الثوابت التي عرضنا لها، يمكننا أن نتخيل وضعها وهي ترتكز على قدمين فقط ليستعيض المصري عن الساق الثالثة بعصاة تعينه علي التوازن، وهو ما حدث بالفعل، إذا تصورنا ذلك سنتمكن من إدراك ما حدث للمصري بعد نكسة 1967، فهذه النكسة المشئومة أطاحت بساق التاريخ، مما أجبر المصري أن يسير على قدم واحدة ويعتمد على عكازين فصار معاقا، وعندما أدرك المصري إعاقته انكسر ومع انكساره أصابه الخوف الذي تلون بالاستنكار للاشتراكية بعد فشلها، لأنه وقتها حملها المسئولية حتى يعفي من طبقها من العقاب، فتاريخ المصري يقول إنه عاطفي مع من يثق أنه يحبه حتى لو أضره، لذلك لم يستطع المصري أن يخطِّئ عبد الناصر، لكنه ألقي بالخطأ على الهوية الاشتراكية، لذلك راح يبحث عن نقيضها من وجهة نظره وهو الدين، ولأنه كان واقعا تحت وطأة الصدمة، ولأن المؤسسات الدينية لم تكن جاهزة لاستيعابه بالقدر الكافي بذرت التيارات الدينية التي جاء بعضها متطرفا في توجهاته.

والتطرف هنا ربما يأتي بشكل طبيعي كمحاولة لا إدراكية للتكفير عن الابتعاد ولو قليلا .. لكن نفسية المصري لم ترتح فهو مازال يصر على الأخذ بثأره، هزم الخوف وعبر بكل الوسائل أنه لا حياة مع الهزيمة، لتأتي حرب أكتوبر ويستعيد المصري كرامته ويستعيد معها ساقه التي أطاحت بها النكسة، لكنه في الوقت نفسه لا يستعيد توازنه بالقدر الكافي، حيث أن ساق الفن بدأت تعاني بعض الشيء، وساق الدين لا تقف صلبة على أرض تتأرجح من تحتها، لكنه بعد النصر أصر أن يستعيد الأرجل الثلاثة، وزادت محاولته المستميتة، لكن يأتي الانفتاح وهو الذي لو كان قد طبق بشكل مدروس وطريقة أعمق لأفاد البلد كثيرا، لكن السرعة وعدم حساب النتائج جعلا المصري يشعر بالدوار، وكأنه في عملية بسترة، من الغليان إلي التجميد إلى الغليان، لتجهز عليه معاهدة السلام، ليجد الجسد المصري نفسه وقد أصبح على كرسي متحرك، وتبدأ لحظة الهذيان التاريخي لشعب أصبح يبحث عن هوية ولا يعرف من يصدق ومن لا يصدق، وقد تواكب مع كل هذه الأحداث ما حدث من التعدي على الأراضي الزراعية وإقامة البناء فوقها، فبدأت هجرة الفلاح للعاصمة أولا ثم بدأ موسم الهجرة لدول الجوار مع تحسن الأوضاع المعيشية فيها وقلة فرص العمل في مصر بالإضافة لما أفرزه الانفتاح من نمط استهلاكي وظهور قيم جديدة في هذا المجال تحتاج مالا لا يتوفر بالقدر الكافي هنا.

ومع السفر بدأ التعرض للنموذج السلفي، ومع هذا النموذج وبجواره كان النموذج الغربي أيضا في أسلوب الحياة ليدخل المصري في دهاليز ازدواجية، ثم بعد ذلك يأتي اغتيال السادات ليتولي مبارك الحكم ويعلن قانون الطوارئ، وبذلك تتم المنظومة ليقع المصري في براثن الخوف والقهر، وليستشري الفساد يوما بعد يوم، ويصبح جهاز الأمن هو المسئول عن كافة شيء في مصر حتى الٌاختيار للوظائف، ويدرك المصري أن بلده صار لأصحاب الحظوة والثقة وأنها لن يعطي شيئا لأصحاب الكفاءة.

هنا بدأت رحلة المصري في الالتصاق بلقمة عيشه لتصبح هي الهدف الوحيد، وليجعلها الشماعة المناسبة التي يعلق عليها كل خوفه وسلبيته، ولتتكون عندنا الأغلبية الصامتة.

كل هذا يوضح لنا طريق المصري الذي قطعه علي مدى أكثر من ستين عاما، ويبين أسباب خوفه وأشكاله أيضا، لقد وجد المصري نفسه بعد هذه الفترة على كرسي متحرك كما قلنا، فزاد خوفه أن يموت، فصمت على ما يحدث واستكان ورضي بإعاقته، لكن ما حدث منذ 2003 جعل خوفه يزداد يوما بعد يوم، ففي هذا العام بدأ تعويم الجنيه وبدأت الحالة الاقتصادية تسوء بشكل لا يبشر بخير، ومع الوقت لم يعد الكرسي يفي بالغرض، وانقصم ظهر مصر وصارت طريحة الفراش، إما تستكين حتى تموت وإما تثور رغم عجزها، وكالعادة وكما يحدث على مر السنين اختار المصري البديل الثاني فهو يرفض أن يموت طالما هناك أنفاس تتردد، نبتت له ساقان وسرى الدم في عروقه وهزم خوفه وثار.. هنا وصلنا إلي حقيقة مهمة وهي أن المصري عندما يزداد خوفه لدرجة الموت ينتفض ويكسر الأسوار...المشكلة أن الخائف عندما يثور يحسب خطواته حتى لا تزل قدمه، لكن المرعوب الذي أصابه الرعب بالخرس لا يفعل ذلك، فهو لا يصدق أذنه عندما يسمع صوته لذلك يصرخ كثيرا، وتصيبه هيستيريا الانتصار علي الخوف فيتصرف بشكل غير محسوب... هو تماما، كمن حبسوه في قمقم مظلم، ماذا تظن منه عندما يهشم القمقم؟ لذلك كان من المفروض أن يتفهم القائمون على الأمر والنخبة المثقفة أن شعبا عانى القهر والظلم لسنوات عديدة يحتاج إعادة تأهيل سريعة ومدروسة عندما يخرج للحياة وإلا تحولت الانتفاضة المشروعة إلى تخريب، وأصبحت الحرية فوضى.

هذا ما نلمسه الآن، ففي اعتداء المصريين على سفارة إسرائيل ثم سفارة السعودية ومن بعدها سفارة مصر في بيروت ما يؤكد أن القائمين علي حكم البلد ومعهم قادة الرأي لم يقوموا بدورهم الذي كان من المفروض أن يتقنوه لتهذيب معنى الحرية في نفوس حرمت منها طويلا... ما يحدث من اعتصامات واحتجاجات، هي عمل مشروع ولا شك ولكن أن تتجاوز حدودها لتصبح معارك دامية، وتتجاوز جغرافية الاعتراض للتواجد في أمكان تمثل هيبة البلد وسلطته، يؤكد أن ثمة خللاً يحدث ولابد من علاجه الفوري، ولن يكون العلاج إلا بالفهم الدقيق والتعامل السريع بحزم ومراعاة لصالح البلد وصالح الإنسان المصري في ذات الوقت والمحافظة على آدميته.

الشعب المصري كسر حاجز الخوف هذا صحيح ورائع، لكنه مع ما يتوالى من أحداث حولنا في طريقه لكسر كل شيء، والسبب أنه خائف، فما حدث في الشهور الماضية جعله يشعر أنه ضحية مؤامرة، ولأن معظم الشعب حديث العهد بالانخراط في السياسة، ولأن وسائل الإعلام معظمها لم يقصر في تغذية خوفه، ولأن أداء من اختارهم لم يحقق طموحاته، ولم يحل له أكثر المشكلات إثارة لخوفه وهي الأمن والاقتصاد صار كمحارب لا يعرف من الذي يحاربه بالضبط فاختلت بوصلة توجهاته وصار يحارب طواحين الهواء.. المشكلة حلها في أيادينا نحن... من يحكم البلد ومن يمثل الناخبين ومن يرشح نفسه للرئاسة ورجال الفكر والإعلام.. وليتنا نفيق قبل أن يصل خوف المصريين لأن يحرقوا الأرض ومن عليها... وأعتقد أننا كلنا نعرف مأساة القطة التي عندما خافت من الأعداء علي صغارها لم تجد مكانا لهم أفضل من جوفها فأكلتهم جميعا .

المصدر: مجلة حواء- ايمان حسن الحفناوي

ساحة النقاش

hawaamagazine
مجلة حواء أعرق مجلة للمرأة والأسرة المصرية والعربية أسسها إيميل وشكرى زيدان عام 1955، وترأست تحريرها الكاتبة أمينة السعيد، ومن يوم تأسيسها تواكب المجلة قضايا وهموم المرأة والأسرة المصرية والعربية. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

19,454,225

رئيس مجلس الإدارة:

أحمد عمر


رئيسة التحرير:

سمر الدسوقي



الإشراف على الموقع : نهى عبدالعزيز