ترتيب البيت من الداخل

كتب : محمد الحمامصي

 

انشغلنا جميعا بالسياسة والصراع واشتغلنا بها، وصرنا محللين ومنتقدين ومتحذلقين أكفاء وبارعين في اللف والدوران، واللت والعجن، ولي الحقائق وغير الحقائق، وتركنا أمراض الضغوط السياسية والاقتصادية وغيرها ترعى فينا مجتمعا وأسرة وعائلة، لم يعد أحد منا معنيا بما يجري رغم تفاقم هذه الأمراض، نخب السياسيين والكتاب والمثقفين وعلماء النفس والاجتماع ورجال الدين المستنيرين وهلم جرا، بدا وكأنهم في واد آخر غير وادينا، حتى المواطن العادي أصيب باللامبالاة جراء الضغوط التي يعيشها.

حالة الارتباك تحولت إلى غيام أو حجاب يقف حائلا بيننا وبين قراءة ما يجري مجتمعيا، كثرت التصريحات وكثر انشغال النخب بها، لتصبح كل نقاشاتهم وحواراتهم وتحليلاتهم حول هذا التصريح أو ذاك لفلان أو علان غير ذي الشأن أو الصفة.

تصريحات تجوب الأفق المصري تطحن الناس وتطحنها الناس وفي النهاية عجين بلا طحين، من أجل مباراة كورة قدم لم تتوقف التصريحات على مدار الساعة أسبوعا كاملا، بل إن ما حظيت به المباراة من متابعة لأخبارها والصراع الدائر حولها تفوق كثيرا ما أعلن عنه من إحراز القوات المسلحة لعمليات ناجحة في سيناء للقضاء على البؤر الإجرامية، وهي العمليات التي تحتاج المساندة والدعم النفسي والإنساني.

لم يعد أحد مهموما أو مهتما بالقضايا الحقيقية والجوهرية التي تمس أمن مصر القومي وبالدرجة نفسها أمنها الاجتماعي، لم يخرج أحد من »اللكاكين« ليل نهار بالتصريحات وأخوانهم »اللكاكين« ليل نهار بالتحليل والنقد لينبه أو يحذر أو ينصح أو يرشد أو يطالب بالمسئولين بالتوجه نحو معالجة الأوضاع الاجتماعية المتردية. فقط انتبهوا وطالبوا وغضبوا لمباراة كورة، ولم ينتبهوا أو يغضبوا لارتفاع معدلات تعاطي المخدرات والسرقة بالإكراه في الشوارع نهارا جهارا، أو ارتفاع معدلات البطالة وإغلاق عشرات من مصانع وشركات القطاع الخاص نتيجة تدهور الأسواق وارتفاع سقف مطالب عمالها بزيادات ليست في قدرة المالك، لواقعة اعتداء أب على ابنته وقيام شقيقه بقتلة لمحو العار، أو إلى ارتفاع معدلات تحرش الصغار بالفتيات والسيدات، أو إلى غياب القانون في وقائع عدة لعمليات قتل قام بها مواطنون عاديون ضد بلطجي أو مسجل خطر. ومن هذه الأمثلة الكثير الذي يدلل على حجم الأمراض التي ترعى في الجسد المصري وفي مقدمتها العنف سواء كان جسديا أو لفظيا أو سلوكيا.

شخصيا لا أعرف بمن نستنجد، والكل في غيبوبة السياسة وصراعاتها، والكل في لهاث ليلحق بالركب لعله يناله من كرسيا، والتليفزيون المحلي والقنوات الفضائية تسيطر عليها »التجاهل« تارة و«الإثارة«تارة أخرى، تخلق من القضايا التافهة قضايا كبرى وتمر مرا لا يلفت نظر أحد على القضايا الكبرى، حتى أئمة المساجد حولوا خطب الجمعة إلى نشرات سياسية، فأصبح الواحد منهم يتدخل برأيي فيما لا يعنيه من شئون السياسة، على الرغم من أن الناس في أمس الحاجة إلى كلمة طيب تهدئ من روعهم وتبث فيهم السكينة، إلى من يعود بهم إلى سلام الإسلام وسماحته وخيره.

إنني أدعو إلى أهمية أن تكون هناك بحوث ودراسات تستهدف قراءة القضايا الاجتماعية في مختلف الفئات والشرائح، تشجع عليها الدولة وتتبنى نتائجها، وعلى أساسها تفتح جسرا للتواصل مع أفراد المجتمع ككل لاقتراح الحلول والبدء في العمل لعلاجها.

لابد من أن نعطي لما يجري في المجتمع المصري مساحة كبرى وألا نتهاون مع أي مرض يظهر، مثلا لنتعامل مع قضية العنف أو السرقة بالإكراه أو غير ذلك تعاملنا مع أي مرض دخيل، ينبغي إعلان حالة الطوارئ في كل الأجهزة المعنية والمتخصصة، وتطويق المرض وحصاره والقضاء عليه، لا ينبغي أن نكتفي بردعه حيث أنه سرعان ما يعود أشد قوة وفتكا، بل لابد من معالجته بشكل جذري.

إن مصر بحاجة إلى نظرة أخرى غير تلك التي ننظر بها، الاقتصاد وحده ليس كافيا، ولا الهراوات والشوم والبنادق والمسدسات والمدرعات، مصر بحاجة أولا وقبل كل شيء دعوات لفتح أنوار المعرفة على العقول والقلوب، إلى الموعظة الصادقة الحسنة، إلى إعلاء قيم الحق والجمال والحرية، إلى طريق نحو مستقبل مشرق، مصر في حاجة إلى تكميم أفواه الحرب على المعرفة والثقافة والإبداع والفن.

مصر بحاجة إلى ترتيب بيتها من الداخل وتأمين غرفه وممراته ونوافذه وشبابيكه وتنظيف أرضياته وفرشه والتأكد من أمن سكانه، لتستطيع آمنة التحرك نحو الخارج وتحقيق ما تصبو إليه من مكانة

المصدر: مجلة حواء -محمد الحمامصي

ساحة النقاش

hawaamagazine
مجلة حواء أعرق مجلة للمرأة والأسرة المصرية والعربية أسسها إيميل وشكرى زيدان عام 1955، وترأست تحريرها الكاتبة أمينة السعيد، ومن يوم تأسيسها تواكب المجلة قضايا وهموم المرأة والأسرة المصرية والعربية. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

19,702,258

رئيس مجلس الإدارة:

عمر أحمد سامى 


رئيسة التحرير:

سمر الدسوقي



الإشراف على الموقع : نهى عبدالعزيز