<!--<!-- <!--
استوقفتنى الفوانيس المعلقة بمحل صابر شعلان : وقد عاد إلى تصنيع نموذج قديم من تصميم والده الأسطى شعلان فضل الله !
أعادتنى تلك الفوانيس إلى زمان بعيد فى بلدتنا الصغيرة الجميلة الساكنة شمال دلتا نيلنا الطيب .. وحقولها العامرة بذهب القطن الأبيض ، وسنابل القمح المتمايلة فى الحقول ، والأشجار المزدهية بالخضرة والثمر ، والأطفال وهم يلعبون فى اجازة المدارس الصيفية ، وروائح الطواجن تشى بها أفران الأمهات والخالات معلنة عن إبداعهن فى تدبير طعام على تواضعه كان شهيا !
كان الظلام يهبط سريعاً على بلدتنا بعد غروب الشمس ، لكن ثمة حلم كان يتربع فى مخيلة الجميع ، ينمو فى نفوسهم كل مساء وهم يشعلون «الكلوبات» والمصابيح التى تضاء بالكيروسين فى المحالات والبيوت !
وفى يوم رأى الناس أعمدة الكهرباء تقام فى شوارع البلدة فإنتعش الحلم فى النفوس ، لكن شهوراً مضت ولم تر العيون جديداً ، إلى أن جاء يوم مشهود قبل أيام من شهر رمضان أعلن فيه المنادى عم فتحى السقا أن الكهرباء ستدخل البلدة فى الأيام القادمة ومن يرغب فى أن يوصلها إلى بيته ، فعليه أن يتقدم بطلبه إلى السيد مدير البلدية .
نزل علينا النبأ بالبهجة والسرور وكدنا نطير من الفرح وقال الحاج محمد عوف أكبر مسن فى بلدتنا للمنادى فتحى السقا :
اليوم يا فتحى أنت اعلنت عن تحقق الحلم «فمن اليوم أصبحت فاتح الخير بالنور .. يا سقا رويت عطشنا بالخبر السعيد !» .
فى المساء .. سمعنا عمدة البلدة فى دواره يحكى عن مساعيه الحميدة لإدخال الكهرباء .. وسمعنا رجال نائب البلدة فى البرلمان يقولون أن السيد النائب لم يضن بجهد فى سبيل تحقيق الحلم !
وقال شيخ المسجد :
أيها الناس .. إن من أدخل الكهرباء إلى بلدتكم هو الله تعالى سبحانه يفعل مايريد ، وإن أولى الأمر هم من نفذوا أمر الله ، فلهم الشكر ولله الحمد وكل عام وأنتم بخير .
مضت أيام ، وكانت بيوتنا قد جهزت لاستقبال الكهرباء ، وفى أول يوم من رمضان تم توصيل التيار الكهربائى وتألقت الشوارع والمحلات والبيوت بالنور وإزدانت مساجد البلدة بالزينات ومآذنها بالأضواء المبهرة .. وقامت البلدية بالاحتفال بهذا الحدث العظيم وتصدر قاعة الحفل مقعد السيد مدير المديرية ، وسمعنا أشعاراً وأزجالاً وخطباً من رجال العلم والمهتمين بالثقافة ، وتزاحمت كلمات المديح لكل من ساهم فى تحقيق الحلم الكبير !
مضت أيام من رمضان وبعد صلاة العشاء والتراويح ، أخذتنى شوارع بلدتنا وقد إزدانت بأعمدة الكهرباء المضيئة ، ورحت أسير وحدى ، واستوقفنى مبنى المحكمة المطل على شاطىء النيل وقد سلطت عليه مصابيح كهربائية كبيرة ، وتجلى أمامى رسم العدالة على جدارها ، وبدت السيدة المعصوبة العينين التى تحمل ميزان العدل بكفتيه المتساوتين باهرة فى النور ، جلست على مقعد حجرى أتأمل الرسم البديع ، وطالت جلستى ، كان رمضان بأيامه القليلة التى مضت قد غسل نفسى ونقاها بالذكر الحكيم وبالصلاة والزكاة والصيام ، وجاش صدرى بمكنون الآلام والأحلام فتراءت لى كفتا الميزان تتحركان وإذا اللصوص والمرتشون والتاركون الصلاة والمفرطون فى رمضان والسارقون مال اليتامى والآكلون حقوق الناس بالباطل إذا هؤلاء يتربعون فى كفة من كفتى الميزان، والمدهش أنى وجدت هذه الكفة رغم ثقل ما بها ترتفع ولا تنعدل .. وكأنى فى حلم تجلت أمامى الكفة الأخرى وبها جنود الوطن الذين أستشهدوا وبها الفلاحون الذين يزرعون ويسقون الأرض بعرقهم والعمال الذين يمهدون الطرق ومعهم الحدادون والنجارون والبناءون الذين يعمرون ويبدعون بإخلاص وبجانبهم المدرسون والمهندسون والأطباء الذين يؤدون أعمالهم بأمانة وهم يعلون الواجب الإنسانى فوق المنفعة المادية !
رأيت هؤلاء وهؤلاء ومعهم الأرامل اللاتى منحن الوطن فلذات أكبادهن فى معارك التحرير والتعمير ، وأمهات أخريات صبرن على فقد أزواجهن ورحن يعملن بشرف متحملات العنت وحمين أبناءهن من العوز والحاجة ، وتجلى فى نفس الكفة من وصل رحمه ومن أماط الأذى عن الناس بالعمل وبالإخلاص وبالمودة والرحمة ومعهم من طهر نفسه بالتوبة والصلاة والصيام والزكاة راجيا رضا الله ..!
وكأنى بهؤلاء وهؤلاء وهم يجلسون فى كفة الميزان فلا ترتفع ولا تنخفض بل تستقر عند خط إستواء العدل ، والعجيب وأنا أعود متحسراً أرمق الكفة المرتفعة التى لا تنعدل أجد أن من بها جيوبهم منتفخة بالجواهر والذهب ، بينما كفة الميزان المعتدلة تحتشد بأناس ضعاف البنية لايحملون أموالاً ولا ذهباً ولا فضة !!
وأفقت من تأملاتى .. رددت كلمات العدل سبحانه وتعالى :
بسم الله الرحمن الرحيم: {يا أيها الذين آمنوا ، كتب عليكم الصيام كما كتب علي الذين من قبلكم لعلكم تتقون} .
وسرت أفكر ، وجدتنى أمام الأسطى شعلان فضل الله صانع فوانيس رمضان - كان جالساً بمحله .. أقبلت عليه .. حييته .. كانت تربطنى بالرجل صداقة وود رغم فارق السن ، فهو بمثابة أبى .. كان كريما ودودا أجلسنى بجانبه وسألنى إن كنت أرغب فى شراب .. شكرته .. لكن قام وعاد يحمل كوبين من العناب وقال :
- هذا عناب جميل وأنت تحبه!
سكت ثم قال وأنا أرشف العناب :
- ماذا بك يا بنى .. أراك مهوماً ؟
- لا يا عمى .. فقط لى طلب عندك وأنت بعد الإفطار ترتاح ولا تعمل !
- هوّن عليك .. بالنسبة لى أعود للعمل لو أردت !
- اريد فانوساً يا عم شعلان ؟
نظر إلى الفوانيس المعلقة بالمحل وسألنى :
- ألم يعجبك كل هذه الفوانيس ؟!
قلت :
لا ياعمى .. هذه فوانيس جميلة لكنى أريده على شكل ميزان العدالة فى كل كفة فانوس مضىء .. وحكيت للرجل بعضا من تأملاتى وأنا جالس قرب رسم العدالة !!
قام عم شعلان وتحمس للفكرة وهتف :
- فى أقل من ساعة ستستلم الفانوس المطلوب !
راح الأسطى شعلان يعمل ويبدع .. أحضر عروسا من البلاستيك وغطى عينيها برقائق معدنية فبدت معصوبة العينين ، وضع الميزان والكفتين وفى كل كفة وضع فانوساً ، ثبت كفة وجعل الأخرى متحركة ، وصنع دائرة كهربية بحيث لايضىء فانوس الكفة المتحركة إلا إذا صارت مستوية مع كفة الميزان المضيئة وثبتت بمحبس وحين أتم عمله أقبل علىّ بوجه باسم قائلاً :
- لك يا ابن أخى ما أردت!
شكرت العم شعلان ، حملت فانوسى ميزان العدالة ، اتجهت إلى بيتى .. وحين فتحت الباب أقبلت على ابنتى الصغيرة قرة العين سما ، نظرت إلىّ وهتفت :
- شكراً يا أبى .. هذا فانوس جميل ، لم أر مثله أبداً ..!
ناولتها ميزان العدالة بفانوسيه .. أضاءته .. فتألق بالنور فانوس مكتوب على جوانبه الزجاجية الملونة :
{شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ، هدي للناس وبينات من الهدي والفرقان} .
نظرت إلى سما .. كانت مقطبة الجبين وغمغمت محتجة :
- فانوس واحد هو الذى يضىء يا أبى ، كيف أضىء الفانوس الآخر !؟
قلت : حركى كفته إجعليها مستوية مع كفة الفانوس المضاء ..
راحت سما تحرك كفة الفانوس المظلم حتى استوت مع الكفة الأخرى فإنبعث نور الفانوس باهراً .
قلت لسما : بجانبه محبس .. ثبتيه به حتى يظل مستويا مع ميزان العدالة فلا ينطفىء ! ثبتته سما وهى تقول بفرح : النور ملأ الحجرة يـا أبى بإضاءة الفانوسين !!.
قلت : وماذا أيضا يا حبيبتى؟
قالت : الدنيا هكذا صارت حلوة وجميلة !
قلت وأنا أقبلها : نعم يا حبيبتى !
همست إلى نفسى وأنا أتجه إلي حجرتى :
يا ليتها يا ابنتي تصير بحق حلوة وجميلة.
ساحة النقاش