من طول قهرهم :المصريون يخافون التغيير

 

كتبت :نجلاء أبو زيد

الإدعاء بأن تاريخ المصريين تاريخ خوف ودعة، يساقون بقوة العصي، ادعاء فيه كذب وافتراء وجهل علي شعب أنار فجر حاضرته الإنسانية جمعاء، وهو شعب ثائر، لكن تركيبته الإنسانية ورؤيته وقراءته الخاصة تحول دون أن تكون ثورته تدميراً وتخريباً، يؤدي دوره ولا يتوقف عنده بل يمضي ليري آثاره، فإذا لم يتم البناء والتعمير والعدالة والحرية، عاد إلي دوره ثائراً .. وهكذا يكون «الحكيم» أو لنقل «الفيلسوف» أو «البصير»

وعلي الرغم من كل ذلك لم تصادر «حواء» علي طرح التساؤل: هل يخاف المصريون؟ ولماذا؟ ما طبيعة خوفهم وهل له علاقة بطول أمد القهر والسلب؟ وما هي هذه الطبيعة التي يتمتعون بها ويظنها البعض خوفاً؟ وغير ذلك نتعرف علي تفاصيله في السطور القادمة .

البداية كانت مع الناس لنتعرف على ما يسبب لديهم الآن الشعور بالخوف.

وعن ذلك أجابت سهام عبدالعاطى -موظفة - :أخاف من الزمن فأنا لم أتزوج وأعيش بمفردى لكننى قادرة على خدمة نفسى، وأعمل وأستمتع بعملى لكن لا أعرف كيف سيكون الحال عندما أكبر فى السن ولا أجد من يخدمنى، أو تقل نقودى وينصرف الناس عني.

محمد صلاح -محاسب- يخاف من المستقبل وعن ذلك يقول: أخاف على حال البلد فى المسقبل فاللأسف حالنا من سيىء لأسوأ، حتى فكرة وجود رئيس لا أرى أنها ستحل الأزمات بل بالعكس، فالناس لم تعد تعرف إلا افتعال المشاكل وكل هذا يخيفنى على مستقبل أولادي، وأخاف من تكرار حوادث السرقة والاختطاف، وأخاف أن يحكمنا حاكم ظالم مرة أخرى.

الأستاذ عبدالعاطى- فنى كمبيوتر- : أخاف من القهر، فقد عملت لفترة بإحدى الدول العربية وتعرضت لقهر فظيع، أضعت كرامتى من أجل المال، وعندما جمعت القدر المناسب عدت لأفتح محل خاص بى فى مصر لأننى قهرت فى الغربة، والآن أخاف من نقص المال والعودة لما كنت فيه، أو تزداد الأحوال الاقتصادية سوءاً فأخسر نقودي.

المرض!

أمينة عوض -ربة بيت- تقول: أخاف من المرض فقد رأيت جارتى تموت ولم نعرف كيف ننقذها لأنها فقيرة ومن يومها أدعو الله ألا أمرض أو أجد أولادى حتى لا نتبهدل وأن نموت بسرعة، فالفقير لا يشعر به أحد وهذا يجعله دائماً خائف لكنه يرمى الحمول على الله حتى يعيش، وأخاف أن تنهار البلد ولا نجد لقمة العيش التى أصبح العثور عليها صعب جداً.

كانت هذه بعض مخاوف المصريين الآن، لكن كيف كانت علاقتهم بالخوف عبر العصور المختلفة؟!

عن ذلك تحدثت د. آمال السبكى أستاذة التاريخ المعاصر ووكيلة كلية الآداب السابق جامعة بنها- قائلة: الخوف إحساس فطرى عند كل البشر، لكن المصريين تعرضوا على مدى العصور لقهر منظم لزيادة الإحساس بالخوف لديهم، لأن مصر بطبيعتها الجغرافية اعتمدت دائماً على نظام الدولة المركزية التى تختار ممثلين لها فى الأماكن المختلفة لضبط النظام، ولم تمر مصر بأى مرحلة خلت من الاستبداد ولو بأشكال مختلفة، وإذا تحدثنا عن الحكم الإسلامى فسنجد أنه أعطى حرية الاعتقاد والدين لكن لم يقرب من السلطة إلا من كانوا مسلمين وفى هذا قهر للفئة الأخرى، وعندما جاءت الدولة الفاطمية وأرادت نشر المذهب الشيعى كان عليها إزاحة الأزهر رغم أنها من أنشأته لأنه سنى الهوى والمذهب. لكن المصريين رغم ما تعرضوا له من إبعاد للسنة والمسيحيين وتقريب للشيعة لم يستجيبوا لقهر الحكام، وفى الحكم العثمانى بدأت مصر تعانى من مشكلتين فى غاية الأهمية وهما، أن مصر كانت أكثر تحضراً من السلطنة العثمانية فى كل شئ، فبدأت السلطنة تترك للمماليك قهر الناس من خلال فرض ضرائب بحجة الدفاع عن مصالحا، فمصر كدولة هى معبر الحضارات ومركز انتقال التجارة كانت مطمعاً للجميع، فهى جوهرة التاج العثمانى ندفع لهم الأموال حتى بعد أن خرجنا من سيطرتهم، والمفاجأة أننا ظللنا ندفع لهم أموالاً حتى فى عهد عبدالناصر بدافع الولاء دون أن يكون هناك تبرير لذلك، وكل من حكموا مصر كانوا يعتمدون على قهر الشعب لخلق الخوف بداخله، حتى جاء عهد محمد على وكان شديد القسوة والقهر، لكنه كان ينفذ مشروعاً حضارياً وفى عهده استمر الخوف من مصدرين أولهما أن الفلاح كان لا يملك الأرض وفى أى لحظة يمكن إخراجه منها، وكان الفلاح عليه دفع إيجار الأرض مقابل استخدامه لها، وفى نفس الوقت عليه تنفيذ تعليمات الملتزم من تنظيف للجسور والترع بلا مقابل ليضمن الحفاظ على الأرض التى يزرعها ويدفع مقابلها للملتزم، ثم ارتبط بما سبق القهر للجهادية حيث لم تكن هناك قواعد منظمة وكان الفلاح يهرب من قريته لقرى أخرى خوفاً من أخذه فى الجيش، وهذا الخوف المستمر والهروب المتكرر هو الذى أخرج الفلاحة المصرية للعمل فى الحقل، وعلى مر التاريخ كان الشعب صبوراً متكيفاً لأن وجوده على أرض مستوية تعيش على الزراعة خلق بداخله الشخصية المسالمة، ولكن دائماً كان المصرى يفاجئ حكامه فعندما لم يعد متحملاً للقهر قام الفلاحين بثوراتهم على سعيد وأصدرت اللائحة السعيدية عام 1850 التى قننت حق الانتفاع بالأرض، وفى 1899 أصبح هناك حق تملك للأراضى الزراعية، وعندما دخل الإنجليز مصر بدأ يتعلم من الإنجليز نفسهم، وبدأت الأحزاب، وظهرت الأفكار الثورية التى تربط بين الحرية والاستقلال الاقتصادي، فالمصرى تحمل الخوف وتلاعب عليه من خلال النفاق الاجتماعى، وعندما لا يكون قادراً عل قهر الظلم كان يقهر بعضه. ثم حدث الانقلاب العسكرى الذى تحول لثورة 52 وشعر الشعب بحريته، وقبل فكرة عبدالناصر الحاكم المستبد العادل لأنه يساوى فى الظلم بين الجميع، وطالما هناك لقمة العيش والوظيفة والعلاج فلا داعى للثورة، لكن عندما ارتفعت الأسعار فى عهد السادات قامت الثورة وحدث نفس الشئ فى عهد الرئيس المخلوع، فطالما كان الناس قادرين على التكيف مع الظلم والفساد، كانوا صامتين حتى انفجروا وقضوا على الخوف، وبعد هذه الثورة لن يستطيع أى نظام إخافتهم لأنهم جربوا بأنفسهم أن يسيروا على أقدامهم لميدان التحرير ويرفعوا أصواتهم، وبعد أن تعلموا وتدربوا على كل أنواع الاستبداد التى مرت عليهم، أصبح لديهم حصانة من الخوف والقهر، وللأسف كل الحكام لم يعرفوا الشخصية الحقيقية للمصرى فهو يتحمل لكن دائماً يثور!!

الحاكم الفاسد يخيف

أ.د. على ليلة - أستاذ علم الاجتماع جامعة عين شمس - تحدث عن الخوف قائلاً: - المخاوف التى يعانى منها المصريين ليست كامنة فى شخصياتهم، لكن فى الظروف الطبيعية والبيئية والحكام الذين حكموهم، ففى فترات الرخاء الاقتصادى يختفى الخوف وفى عهد الحاكم الفاسد يزيد الخوف، والمصريون قاموا بالثورة عندما تضاءل الحاكم فى نظرهم وبدأ الخوف يتآكل.

والمجتمع المصرى كان ولايزال من أفضل الشعوب لأنه بنى حضارة قوية لا نستطيع وصفه بالخوف، لكن بالصبر فهو يصبر على أمل تحسن الأحوال وعندما يضيع الأمل يثور.

فمشكلة هذا الشعب كانت دائماً فى حكامه الذين لم يعرفوا طبيعة هذا الشعب الذى فى رباط إلى يوم الدين، وترديد البعض لعبارة أن المصريين شعب «يخاف ما يختشيش» ليس لها أساس من الصحة، لكنها مقولة هادمة لا تريد لنا إلا العودة للوراء، لكن الشعب لن يقتنع بهذه المقولات ولن يعود للوراء، فنحن شعب فقير ليس له درع يحميه، حتى حكامه عندما جاءوا وكانوا من أولاد الفقراء حققوا المكاسب لأنفسهم وبطانتهم ونسوا الشعب، وبعد ثورة 25 يناير لن يسمح هذا الشعب لأى حاكم بأن يخيفه لأنه تعلم كيف يثور ويحقق مطالبه وما كان مستحيلاً حققه فى أيام وقهر خوفه. لذا أرى أن المصريين يصبرون لكن لا يخافون، وثوراتهم عبر التاريخ أكبر دليل.

وعن الخوف عند المصريين علقت د. عزة هيكل - أستاذة الحضارة والأدب المقارن - معظم الحضارات قامت على فكرة القدر حيث ينتظر المطر ثم تزرع الأرض، وهذا يخلق الخوف عند هذه الشعوب بعكس الشعوب التى تعيش فى الجبال والصحراء، حيث تعتمد على الجرأة فى مواجهة الطبيعة بحيواناتها المفترسة، لكن نحن شعب عاش فى الوادى واعتاد انتظار المجهول، وبمرور الوقت زاد الزحام والزحام يخلف العنف والخوف من القادم. وأشارت أنه كلما ضعفت الإمكانات الاقتصادية كلما زاد الإحساس بالخوف على الصحة وعلى ما لديه من مال ودائماً ما يفلسف مخاوفه ورفضه، فالشعب كان رافض للنظام السابق لكنه كان ينتظر من القدر أن ينهيه، وعندما تأخر القدر قهر الخوف وقام بثورته وأعقب الثورة ظهور بعض العيوب التى كونتها الظروف الاقتصادية الصعبة التى عاشها الشعب على مدار عقود، لكن دائماً يفاجئنا بذكائه وقدرته على استيعاب أخطائه فلم يستجب لفكرة العصيان المدنى، وعندما حدثت أحداث ماسبيرو قضى على الفتنة فى يوم واحد، وأصبح الخوف المسيطر على الكثيرين الآن الخوف من العودة للماضى وهذا ما يجعلنا فى منتهى الحذر تجاه ما يحدث، فالشعب المصرى لا يخاف بقدر ما يتأنى قبل أى سلوك هكذا علمته الطبيعة، فالمصريون يؤمنون أن الحق عينه قوية والذى يخاف هو الذى عمل «عملة» ، وختمت حديثها مختصرة أسباب الخوف عند أى شعب قائلة: كلما زاد القهر السياسى اختفى الرخاء الاقتصادى وزاد الخوف وأوشك الشعب على الانفجار، لكن إذا وجد رخاء اقتصادى مع بعض القهر السياسى يمكن للشعب تجاوز الأمر والتحمل، فالظروف الاقتصادية السيئة التى تخلق الخوف هى نفس التى تؤدى للثورة عليها عندما تصل لمستوى لا يمكن تحمله.

وعن تفسير الخوف عند المصريين من الناحية النفسية. تحدث د. سيد صبحى - أستاذ الصحة النفسية والعلاج النفسى جامعة عين شمس- قائلاً: الخوف انفعال منتشر بين أفراد البشر لكنه يهذب بمجموعة من العوامل تمنع استبداده بصاحبه . البعد الدينى يأتى فى المقام الأول ، فمن لديه مفاهيم دينية واضحة تؤمنه من الخوف، والبعد الثانى التعليم والثقافة فالإنسان المتعلم المثقف يفكر ويضع بدائل يخفف بها وطأة الخوف. البعد الثالث هو البعد الاقتصادى فكلما كان مستقراً قلت مخاوفه بعكس الحال لو كان معدوماً أو شديد الثراء، ففى الحالتين يكن خائفاً من عدم وجود النقود أو من فقدان ما يملكه من ملايين.

وأضاف أن الشخص غير المستقر مادياً يعانى مخاوف نفسية تبطىء قراراته حيث يشعر بخزى فى بيته وبينه وبين نفسه، وأنه عاجز ليست لديه القدرة على مواجهة الظلم، فالعوز الاقتصادى يخلق الخوف، لذا فمعظم النظم الاستبدادية لضمان سيادتها تعمل على استمرار حالة العوز وما يرتبط بها من خوف وعجز، ولكن عندما يزداد الخوف بدرجة كبيرة يثور الإنسان على مخاوفه، لذا فكل ما نعيشه من فوضى عقب الثورة سببها الرئيسى الهروب من قفص الخوف، فالناس تشعر وكأنهم يجهزونهم للرجوع لما كانوا فيه، ولأنهم يخافون الخوف فإنهم يثورون ويؤكدون فى كل لحظة أنهم لن يعودوا لقفص الخوف. وأضاف أن هناك نوعاً آخر من الخوف بدأ فى الظهور لدى بعض الناس، وهو الخوف من المستقبل وبألا يعود الهدوء والاستقرار، وحتى لا نسمح بهذا الخوف الجديد أن يقتل أحلامنا وما ثرنا لأجله، يجب أن نقوى إيماننا بالله وأن الأرزاق بيده وأن نضع أهدافاً لأنفسنا. ورفض د. سيد مقولة أن الشعب «يخاف ما يختشيش» قائلاً: إن الشعب المصرى ظلمه حكامه ولم يعطوه قيمته الحقيقية، لذا ثار وحطم خوفه وتمرد على كل الكبت الذى عاناه لسنوات، وليحذر أى حاكم يستبد بهذا الشعب أنه لن يدخل القفص مرة ثانية.

المصدر: مجلة حواء- نجلاء ابو زيد

ساحة النقاش

hawaamagazine
مجلة حواء أعرق مجلة للمرأة والأسرة المصرية والعربية أسسها إيميل وشكرى زيدان عام 1955، وترأست تحريرها الكاتبة أمينة السعيد، ومن يوم تأسيسها تواكب المجلة قضايا وهموم المرأة والأسرة المصرية والعربية. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

22,870,919

رئيس مجلس الإدارة:

عمر أحمد سامى 


رئيسة التحرير:

سمر الدسوقي



الإشراف على الموقع : نهى عبدالعزيز