فى روشتة الحكومات تشخيص خاطئ ودواء ناقص

كتبت :سمر الدسوقي

كل ما نالته من حكومات متعاقبة التصريحات والخطط والاستراتيجيات التي لا تثمر في نهاية الأمر عن حل شامل لأوضاع ما يزيد علي 16 مليون مصري، يقيمون في مناطق عشوائية بلا تخطيط أو مرافق؛ وما يزيد الأمر سوءاً هو غياب إحصاء دقيق عن أوضاع هذه المناطق وأحوال سكانها المعيشية، وتشهد الأرقام الرسمية الموجودة تضاربا واضحا، ينعكس علي حلول هذه المشكلة، ويجعل هذه المحاولات كالحرث في البحر.

انتظر سكان هذه المناطق العدل الاجتماعي الذي اندلعت من أجله ثورة 25 يناير، وبالفعل أعلنت حكومة د. كمال الجنزورى المؤقتة عن رصد 175 مليون جنيه لتحسين أحوال هذه المناطق .. لكن هل يعد هذا كافياً؟!

هذا سؤال طرحناه علي الخبراء في محاولة لطرح مجموعة من الرؤي والأفكار للتعامل مع مشكلة العشوائيات في مصر والحد من تداعيات أخطارهاll

البداية تأتى من الحصر لأعداد هذه العشوائيات وأعداد المقيمين بها بل وتوزيعها على مستوى الجمهورية ، والذى يعد مشكلة فى حد ذاته ، بل ويشكل عقبة أساسية أمام التعامل معها ، حيث نجد تخبطاً واضحاً فى هذا الحصر يصعب معه البدء الفورى فى وضع تصور شامل لحل هذه المشكلة ، فمثلاً ووفقا لما ورد فى آخر تقرير للجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء عام 2010 ، بلغ عدد هذه المناطق على مستوى الجمهورية 909 مناطق ، 500 منها يعيش فيها أكثر من 5 ملايين نسمة تتركز فى مناطق المقابر بمنطقة البساتين والإمام الشافعى وباب الوزير والغفير، وجبانات عين شمس ومدينة نصر ومصر الجديدة ، بخلاف المناطق الأخرى كما فى محافظة القاهرة بالدويقة والمدابغ ومنشأة ناصر وغيرها ، فى حين تؤكد وزارة التنمية المحلية أن عدد هذه المناطق يبلغ 1150 منطقة .

وإذا انتقلنا لدراسة اقتصادية أخرى أكثر حداثة صادرة عن مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار، فسنجد أن هذا العدد يقفز إلى 1171 منطقة ، ترتكز فى محافظة القاهرة فى مناطق شبرا الخيمة والمطرية وعين شمس ودار السلام، وحلوان والفسطاط واسطبل عنتر، ومنشأة ناصر والدويقة وماسبيرو.

وكل هذه المناطق أقيمت من قبل ساكنيها على أرضهم أو أراضى الدولة بدون تراخيص رسمية، وبالتالى فساكنوها محرومون من أهم الخدمات والمرافق الأساسية كالكهرباء ومياه الشرب النقية وخدمات الصرف الصحى، لذا تنتشر بينهم أمراض الربو والحساسية والفشل الكلوى، ويعانى معظمهم من الأمية بنسبة لا تقل عن 95% بين الإناث و 80% بين الذكور ، بالإضافة إلى معاناتهم من البطالة فـ 20% من الرجال بهذه المناطق عاطلون، ولا يزيد دخل 38% من الأسر المقيمة فيها على المائتى جنيه شهرياً !!

الواقع علي الأرض

ودعونا نتجول أكثر داخل هذه المناطق ونرصد ما يحدث فيها عن قرب ، فالدخول لأى منطقة عشوائية قد يتطلب منك دفع إتاوة ، كما يستلزم وجود مرافق يصحبك ويعرفك على المقيمين بالمكان ، ولا تجزع حينما تجد ثلاث أو أربع أسر يعيشون فى غرفة واحدة أو غرفتين على الأكثر وبدون دورة مياه ، بل وتعتمد على استخدام مياه شرب تختلط بالصرف الصحى .

وحتى نتعرف أكثر على واقع المرأة والأسر فى هذه المناطق ، تقول يمنى القاضى- إحدى الباحثات فى مجال علم الاجتماع ورئيسة جمعية «هن» لتوعية وتنمية المرأة المصرية :- من خلال معايشتنا لواقع الأسر المقيمة بهذه المناطق على مدى السنوات العشر الماضية وحتى الآن، سنجد أسراً مكدسة فى بيوت لا تزيد مساحتها على 50 متراً وربما أقل ، فى هذا المكان الضيق ويعمل 81% من سكان هذه المناطق بالقطاع غير الرسمى كعمال تراحيل، أو عمال باليومية ، و 20% من الرجال عاطلون ، ولا تقل نسبة المعيلات عن 55% من النساء وفقاً لدراسة أجراها المركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية فى عام 2009 م .

وتتضح المأساة أكثر عندما نعرف أن عدداً ليس بالقليل من هذه الأسر يعيش فى عشش ، وأن النساء اللاتى يعملن لإعالة أسرهن هناك يعملن فى مهن متدنية كعاملات بالمنازل والمدارس وبائعات متجولات ، وهن فى الغالب من المطلقات والأرامل ولا يستطيع دخلهن من هذه المهن الخروج بهن وبأسرهن من دائرة الفقر ، كما أن نسبة ليست بالقليلة منهن يعانين من أمراض الربو والحساسية والفشل الكلوى والتهابات العمود الفقرى، من جراء الأماكن التى يقمن بها والتى لا تعتبر صحية بأى صورة من الصور ، وكذلك من تناولهن وأسرهن لمياه ملوثة بمياه الصرف الصحى.

هذا رصد واقعى يمكن ملاحظته وبسهولة إذا استطعت الدخول لهذه الأماكن .

وتشير دراسة اجتماعية أجراها د. محمد الجوهرى -استاذ علم الاجتماع - إلى أن الدافع وراء السكن والنزوح إلى تلك المناطق وبالأخص الموجود منها بالمقابر ، يعود فى الأساس للبحث عن مكان للإقامة بعد زيادة موجات الهجرة من الريف للعاصمة القاهرة ، مع زيادة الكثافة السكانية لمدينة القاهرة ، هذا بجانب تعرض الكثير من المبانى السكانية القديمة للسقوط أو دخولها فى حيز المبانى الآيلة للسقوط ، ما دفع الأهالى إلى السكن فى هذه المناطق - القريبة من حركة التجارة - بشكل عشوائى وغير رسمى، كما وجدت علاقة بين بعض الحركات الارهابية وبعض سكان هذه المناطق، والتى استغل البعض حاجة أهلها وقاموا باستغلال شبابها الذى يحمل غضبا ناحية المجتمع الذى أهمله.

وكما تقول قدرية وهبه من سكان الدويقة وتعمل عاملة بالمنازل: عندى من الأولاد خمسة، لا نعرف منذ عشر سنوات أين ذهب والدهم، فقد هرب وتركنا ، نتيجة لعجزه عن القيام بمسئولياته وأخبرنى البعض أنه هاجر على أحد المراكب إلى خارج البلد، لأبقى أنا وأولادى نحيا فى عشة صغيرة ، أخرج كل يوم للعمل وتوفير الطعام لهم ، ولكن لا يكفيهم، وليس لدينا مياه نظيفة، ونخزنها فى براميل للنظافة وطهى الطعام ، علشان كده أنا مريضة بالكلى أنا وبناتى على طول، وهم بالمناسبة اثنتان بالإعدادى وثلاث تركن التعليم بسبب نقص المال !!

تدهور اجتماعى

واستكمالا لهذه المشكلة تقول د. هدى زكريا-استاذة علم الاجتماع -: لا شك أن المناطق العشوائية تعتبر بؤراً شديدة التدنى، ومن الناحية الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية ، فهى محرومة من أبسط حقوق الحياة ، فليس بها مرافق كالمياه أو الصرف الصحى أو الكهرباء وكذلك التليفونات ، كما أن المقيمين بها نتيجة لهذه الظروف يعانون من البؤس والأمراض النفسية، ويرتفع بينهم الميل إلى الانحراف وارتكاب الجريمة.

ولأنهم يعيشون تقريبا تحت خط الفقر ، لا يستطيع الكثير منهم إكمال تعليمهم، وبالتالى الخروج لسوق العمل وإيجاد فرصة عمل جيدة ، فـ 60% من أطفال العشوائيات يندمجون فى سوق العمل .

من خلال الأعمال الهامشية لإعانة أسرهم منذ سن مبكرة . نجدهم يعملون فى ورش الحياكة والحدادة ،كباعة جائلين ، بل ويتم استغلالهم فى توزيع المواد المخدرة، كما تتواجد بينهم بعض حالات من زنا المحارم نتيجة لإقامة أكثر من أسرة فى عقار واحد، وفى مساحة ضيقة ، وبالتالى فلكى نعالج مشكلات هذه المناطق نحتاج إلى معالجة أسبابها أولاً من البطالة والفقر وتوفير فرص عمل وإيجاد مساكن بديلة وصحية ورسمية لهؤلاء ، قبل النظر إلى إمدادهم بخدمات الكهرباء والمياه والمرافق وغيرها.

محاولات الحل

وعن تأثير بل وعلاج هذا الوضع الاقتصادى يقول د. حمدى عبد العظيم- أستاذ الاقتصاد ورئيس اكاديمية السادات الأسبق - : لاشك أن تفاقم الوضع الاقتصادى نتيجة للتوقف إلى حد ما عن الإنتاج والعمل ، وكذلك مواجهة الحكومات الانتقالية بمشكلة فى توفير الأموال اللازمة لعلاج أزمة المناطق العشوائية ، والتى يحتاج علاجها ما لا يقل عن عشرة مليارات جنيه ، وهذا رغم ما أعلن مؤخراً من رصد لمبالغ تصل لـ 175 مليون جنيه من قبل الحكومة الحالية لعلاج هذه المشكلة من خلال نقل بعض المناطق العشوائية والحد من ظهور مناطق جديدة ، هذا بجانب ما طرح بالتعاون مع وزراة الإسكان من ضرورة توفير مساكن جديدة ، بل وتزويد المناطق العشوائية بالمرافق والخدمات إلا أن الوضع الاقتصادى الحالى له تأثير كبير فى عدم السرعة فى تنفيذ هذه المشروعات والحلول ، فالحكومات المتعاقبة بعد الثورة اهتمت أكثر بالحلول والخطط قصيرة الأجل بحكم أنها لن تستمر طويلا ، كما ركزت أكثر على سبل إنفاق أخرى أكثر إلحاحا من الناحية الاقتصادية فى الوقت الراهن ، ولكن الواقع الذى تعيشه مصر بعد الثورة من تخبط السياسات أدى إلى شعور سكان هذه المناطق بعدم وجود حلول جذرية لمشكلاتهم بعد الثورة ، ولابد أن نعود إلى تنفيذ الخطة القومية للقضاء على العشوائيات والتى كانت موضوعة ومطروحة للتنفيذ بحلول عام 2025 م ، ولابد من الإسراع بتوظيف طاقة المقيمين بهذه المناطق فى أعمال ولو مؤقتة.

الفقر

وفى محاولة للعمل على إيقاف نمو المناطق العشوائية والتى تزيد وتتفاقم فى مصر بنسبة 800% منذ عام 1985 م ، وحتى الآن ، كان لصندوق تطوير العشوائيات بالاتفاق مع مركز البحوث والدراسات الاقتصادية بالقاهرة، دراسة لظاهرة الفقر فى الأماكن العشوائية غير الآمنة ، حاول من خلالها قياس نسبة حرمان الأطفال والتفاوت فى مستوى المعيشة بهذه المناطق ، تمهيداً لاقتراح سياسة خاصة بالحد من الفقر فيها ووضع برامج لمواجهته .

وعن هذا تقول أشجان البخارى - الناشطة الحقوقية ورئيسة إحدى الجمعيات الاهلية المعنية بالمرأة - : رغم الجهد الذى يبذل فى هذا الشأن بالأخص من خلال المجتمع المدنى لمساعدة النساء البسيطات والمهمشات المقيمات فى هذه الأماكن ، من خلال تدريبهن على الحرف البسيطة وتوفير بعض الخدمات الصحية لهن، وإقامة مراكز إنتاجية جديدة فى مجالات الزراعة الحديثة والصناعات الصغيرة والحرف اليدوية لإتاحة فرصة أمام العاطلين والمقيمين بهذه المناطق للعمل ، بدلاً من أن يتم اجتذابهم فى المقابل للعمل بميدان الجريمة ، هذا بجانب توفير الخدمات فى الأماكن الآمنة من هذه التجمعات والتى يمكنها أن تستمر ، مع محاولة وقف الهجرة الداخلية ما بين محافظة وأخرى.

تأمين صحي

ويتطرق أ. د. هانى الناظر- الرئيس السابق لمركز البحوث العلمية - إلى جانب آخر ينبغى النظر إليه بعين الاعتبار ، ألا وهو ما يعانيه سكان هذه المناطق من أمراض نتيجة لإقامة نسبة ليست بالقليلة منهم بعشش من الصفيح وبيوت من الطين ، هذا بجانب تناولهم لمياه شرب ملوثة فى الغالب ومخلوطة بمياه الصرف الصحى ، وهو ما يتسبب فى إصابة معظمهم بأمراض الفشل الكلوى والكبدى الوبائى وإصابات العمود الفقرى وأمراض الربو والحساسية ، حيث يؤكد على أنه مع العناية بتوفير الخدمات الآمنة لهذه المناطق لابد وقبل تطويرها أن تظلهم مظلة التأمين الصحى ، وأن يحاول وبقدر الإمكان مد مياه الشرب النقية إليهم بأى وسيلة ، إذا لم يتم نقلهم إلى مساكن أخرى صحية p

ومتي نشأت؟

بدأ انتشار العشوائيات فى مصر ، مع أوائل القرن الماضى ، نتيجة لعدم الالتزام بالمنشور الوزارى رقم 28 لعام 1914 م ، والذى نص على عودة جميع المسطحات الخاصة بالدولة والتى انتهي الغرض من تخصيصها للمنفعة العامة، إلى مصلحة الأملاك الأميرية ، وهو ما أدى إلى تحولها إلى عشوائيات نتيجة لعدم وجود إشراف أو حراسة لها، ونتيجة لحركة العمران غير المسبوقة التى شهدتها مصر خلال النصف الثانى من القرن الماضى، بسبب الزيادة السكانية الطبيعية والهجرة الكبيرة من الريف إلى الحضر ، مع عدم توافر القدرات المادية والكوادر الفنية اللازمة على المستوى المحلى للتخطيط وإدارة هذا النمو.

هذا بجانب ظهور العديد من المناطق العشوائية على أطراف المدن سواء على الأراضى الصحراوية المملوكة للدولة أو على الأراضى الزراعية.

أبرز المناطق

تتعدد المناطق العشوائية التى تنتشر على مستوى حزام محافظة القاهرة ، ومن أبرزها نجد «زرزارة والوحايد» بالدويقة، وهما منطقتان تعانيان معاناة شديدة من مشكلة الصرف الصحى، وهناك أيضاً منطقة «عزبة الهجانة» بمدينة نصر وهى منطقة أقيمت على أراض تملكها الدولة ويسكنها وفقا لتقديرات عام 2009 م ، ما يقرب من 100 ألف نسمة .

وبنفس الصورة نجد 800 ألف نسمة تعيش على مساحة تصل لـ 8 كيلو مترات مربعة دون أى مرافق صحية أو خدمات فى منطقة منشأة ناصر .

كما تتعدد المناطق العشوائية والعزب بمنطقة مصر القديمة ، ومنها تأتى عزبة «بطن البقرة» و «خير الله» و «أبو قرن» وبعض المناطق بالمدابغ.

المصدر: مجلة حواء- سمر الدسوقي

ساحة النقاش

hawaamagazine
مجلة حواء أعرق مجلة للمرأة والأسرة المصرية والعربية أسسها إيميل وشكرى زيدان عام 1955، وترأست تحريرها الكاتبة أمينة السعيد، ومن يوم تأسيسها تواكب المجلة قضايا وهموم المرأة والأسرة المصرية والعربية. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

23,057,251

رئيس مجلس الإدارة:

عمر أحمد سامى 


رئيسة التحرير:

سمر الدسوقي



الإشراف على الموقع : نهى عبدالعزيز