بقلم : إقبال بركة

أتأمل زرقة البحر أمامي فإذا بهبة ريح عاتية تطيح بي فى الهواء وترفعني عاليا ثم تقذف بي فوق جزيرة الذكريات، فهنا على نفس هذا الشاطئ اللازوردي الجميل التقيت بحبي الأول، عرفت لأول مرة فى حياتي طعم الشوق والأرق والقلق واللهفة للقاء الحبيب.

هنا فى هذا البحر ذاته ألقيت خلاص ابني وابنتي وأنا أتمتم ببعض الأدعية على عادة الإسكندرانية الذين يتفاءلون خيرا بهذه العادة ويعتقدون اعتقادا راسخا بأن المولود الذى سيطعم خلاصه لأسماك البحر سيكون محظوظا فى حياته، وسيتوفر له الرزق ويعم الخير كما يتوفر فى قاع البحر وعلى شواطئه، فالإسكندرانى يتفاءل بالبحر لأنه ينشأ فى أحضانه.

الأمهات فى الإسكندرية يعرضن مواليدهن لمياه البحر فى الأسابيع الأولى التى تعقب الميلاد يتركنهم على رمال الشاطئ فى الشهور الأولى يمرحون وينمون بكل حرية فلا قيود ولا ضوابط، لا ممنوع ولا مفروض، ولا واجب ولا محظور، وينشأ الطفل ولديه هذا الإحساس ما أن يلمح البحر حتى تعود به بالذاكرة إلى سنوات العمر الأولى إلى لحظات المرح والانطلاق والتحرر من القيود التى يفرضها المجتمع فرضا على أفراده.

وأتجول بين أشجار جزيرة الذكريات الكثيفة فالأحداث كثيرة وتجاربي مع هذه المدينة تغطى مساحة كبيرة من عمري، لعلها أفضل أيام حياتي على الإطلاق تلك المرحلة التى تطلق عليها اسم الشباب، أول وعي بشاطئ البحر كنت فى العاشرة من عمري حصلت على الشهادة الابتدائية بتفوق وأثبت جدارتي لتحمل المسئولية، ففي تلك الأيام البعيدة كان الكسالى فقط هم الذين يستعينون بالدروس الخصوصية، وكان أغلب المدرسين يتطوعون بساعات إضافية يشرحون فيها للتلاميذ ما قد يكون فاتهم أو غمض عليهم من الدروس، على ذلك فقد كان النجاح والتفوق ملكا خالصا للتلميذ لا يشاركه فيه أحد.

وبدأت عائلتي تنظر إلى نظرة خاصة نظرة تقدير للساعات الطويلة التى حبست فيها نفسي وحرمت عليها كل المتع والرفاهيات لكي أراجع الدروس.. وتفهم لرغبتي القوية فى الانفراد بنفسي ورفض مشاركة المذاكرة مع أي شخص آخر والامتناع عن أى نشاط خارج حدود المذاكرة والمراجعة.

تمددت قامتي طويلا.. وبدأ جسدي يتمرد على ملامح الطفولة، وراحت أمي تعد لي من الفساتين ما يليق بالمرحلة الجديدة، فساتين الصيف المبهجة التى تزدان بالكرانيش والكسرات والكلوش والزهور والألوان الدافئة، وما أن لاح ضوء النهار حتى استقلت العائلة سيارة واتجهنا إلى الإسكندرية، تلك المدينة التى تربطنا بها، رابطة القرابة، فقد ولد بها أبى وجدي، وولد بها ابنى وابنتي.

وأصبح لنا نظام يومي لا يتغير، فى التاسعة صباحا يستعد الجميع لمغادرة البيت حاملين عدتهم وعتادهم من كراسي البحر والشمسية والساندويتشات وزجاجات المياه المبردة وكل ما لذ وطاب من مأكولات وحلوى وتسالي، وفى الثانية عشرة ظهرا تهل علينا أمي بوجهها الجميل وابتسامتها المحببة، يتبعها الخدم حاملين صواني الغداء، وفى الثالثة عصرا ننسحب عائدين إلى البيت لكي نستمتع بنوم القيلولة تأهبا واستعدادا لتمشية العصارى على الكورنيش التى قد تمتد إلى ما بعد منتصف الليل، واستمتعت بكل لحظة فى ذلك الهناء العائلي لحظات تدفق الضيوف على الشمسية وغرس شماس أخرى عديدة لكي تتسع الدائرة، ولحظات التعارف بين العائلات وأحاديث السمر بين الكبار والعراكات الصغيرة بين الصغار التى عادة ما تنتهي بالعناق وتقوية أواصر الصداقة، وتصورت أن الدنيا ستظل مبتسمة طوال الصيف لدرجة أنى كرهت التفكير فى الشتاء، وبدأت أتمنى ألا نعود إلى المدرسة أبدا، فجأة حدثت الواقعة، وانغرست ثمرة ريشة فى قاع إحدى قدمي، وثمرة الريشة معروفة جدا لرواد شواطئ الإسكندرية فهي تشبه القنفذ الصغير كثير الأشواك، وبداخلها مادة تشبه صفار البيض يعشقها البعض، أم أنا فقد انقلبت حياتي رأسا على عقب بعد ذلك الحادث وأمضيت باقي الصيف أعالج من جرح فى قدمي أعاقني عن الحركة وحبسني بين جدران البيت لأسابيع طويلة وصرت أتأمل إخوتي وأخواتي فى حسرة وهم يغادرون البيت يوميا ليمارسوا برنامج البهجة اليومي، ولم ينقذني من براثن الوحشة والملل سوى العودة لعادتي القديمة القراءة بشراهة قراءة كل ما تقع عليه عيناى من كتب ومجلات وجرائد قديمة مهترئة وجديدة لامعة، وهأنذا أتأمل تلك الحادثة فى حياتي تحت شجرة وارفة بجزيرة الذكريات، وأردك كم كان لها تأثير كبير على حياتي كلها تأثير إيجابي بكل تأكيد، ولرب ضارة نافعة كما يقولون.

المصدر: بقلم : إقبال بركة
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 539 مشاهدة
نشرت فى 23 يونيو 2022 بواسطة hawaamagazine

ساحة النقاش

hawaamagazine
مجلة حواء أعرق مجلة للمرأة والأسرة المصرية والعربية أسسها إيميل وشكرى زيدان عام 1955، وترأست تحريرها الكاتبة أمينة السعيد، ومن يوم تأسيسها تواكب المجلة قضايا وهموم المرأة والأسرة المصرية والعربية. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

22,801,204

رئيس مجلس الإدارة:

عمر أحمد سامى 


رئيسة التحرير:

سمر الدسوقي



الإشراف على الموقع : نهى عبدالعزيز