محمد الشريف
لا يكاد يمر يوم إلا ويقع أحدنا فى مصيدة خبر كاذب نتناقله دون أن نعرف مصدره أو مدى مصداقيته لنحقق هدف مروجه الخبيث، فننال من شخصية سياسية أو قيمة اجتماعية أو هوية وطنية، ننجح غاية دنيئة فى النيل من مكتسبات بذلنا فى سبيل تحقيقها الغالى والنفيس، لنقع ووطننا ضحية حرب باردة لا تستخدم السيوف أو البارود أو القنابل والأسلحة الحديثة، بل تسخر الكلمات وتتلاعب بالمشاعر وتحبط الروح المعنوية للشعوب حتى باتت أرخص الحروب وأكثرها فتكا، إنها الشائعات، لكن كيف نشأت وتطورت حتى جندت لها وزارات دفاعات الدول كتائب وخبراء نفسيين؟
الشائعات ليست وليدة العصر بل هى قديمة بقدم الإنسان، حيث صاحبت تطوره وحضاراته التى شيدها، كانت -وما زالت- مبناها الكلمات الخالية من الحقائق التى يسعى مروجوها لإسقاط شخصية مرموقة ذات شعبية فى المجتمع، هكذا كانت بدايتها، حيث اقتصر ترويجها بين السياسين فى البلد الواحد لنيل منصب أو مكانة ما، وما فتأت حتى انتشرت وباتت وسيلة تستخدمها الجيوش لتثبط عزيمة أعدائها، ونفث سموم الهزيمة والإحباط بين صفوفهم، فهى أقدم وسائل الحروب الرديئة التي يستخدمها الأعداء الذين يعرفون بالخسة عبر الحقبات التاريخية المختلفة.
وسائل عتيقة
اقتصرت الشائعات حتى حقبة الحرب العالمية الثانية على الكلام الشفهي والرسائل الكتابية حيث كانتا الوسيلتين الرئيسيتين لتداولها، فعلى الصعيد المصرى نجد الشائعات التي أطلقها الأسعد بن مماتي في كتابه الشهير "الفاشوش في حكم قراقوش" على أبى سعيد قراقوش بن عبد الله الأسدي المعروف بـ بهاء الدين قراقوش وهو من كبار رجال دولة صلاح الدين الأيوبي والذي كان من أسوء أشكال الشائعات ولصق التهم بالباطل، حيث سعى إلى التصوير في المخيلة الجماعية للشعب صورة غير صحيحة عن عدوه، بالإضافة إلى كتاب "كليلة ودمنة" الذى هدف إلى هز ثقة القائد صلاح الدين الأيوبى بقراقوش أقرب المقربين إليه، لأنه كان يعهد إليه بأمانة الإشراف على شئون مصر نيابة عنه عندما كان يضطر إلى السفر إلى سوريا للقاء الصليبيين.
وفى عهد المماليك وجدت الشائعات رواجا كبيرا نظرا لطبيعة العصر السياسية والأخطار التي تحيط بالبلاد من الداخل والخارج، ولعل من أشهر شائعات ذلك العصر تلك التي أدت إلى الوقيعة بين السلطان قايتباي وأمرائه المقربين، بل ومحاولة اغتيال السلطان نفسه وبعض أمرائه، وهكذا عبر الحقب المتتالية كانت الكلمة المنطوقة والمكتوبة الوسيلة الأساسية لتداول الشائعات محليا وعالميا، إلى أن وجدت وسائل متطورة جعلت من انتشارها أمرا سهلا وسريعا، حتى اعتمدتها الحكومات خاصة الاستعمارية أداة حربية تدمر بها أعداءها دون إطلاق رصاصة واحدة.
مرحلة العالمية
ساهم استخدام الإنترنت على نطاق واسع لاحقا فى ظهور مرحلة جديدة للشائعات، ولا سيما في ظل انتشار وسائل التواصل الاجتماعي على مدار العقدين الماضيين؛ ومع تعاظم استخدام تلك الوسائل واعتمادها كمصدر للحصول على المعلومات والأخبار والمتابعة، أصبحت حاضنة جديدة لصناعات وتداول الشائعات، وبيئة خصبة لانتشارها خاصة بعد أن باتت وسيلة أساسية وبديلا سهلا وسريعا للتواصل بين البشر.
وبفضل هذا التطور التكنولوجي السريع الذي شهدته وسائل التواصل الاجتماعى خاصة مع تزايد استخدام الهواتف المحمولة وشبكات الإنترنت، أصبح التواصل الاجتماعي أكثر سرعة من أي وقت مضى؛ إذ استمرت شركات التواصل الاجتماعي في نشر المعلومات في الوقت المناسب، وبغض النظر عن مصداقيتها، بما في ذلك إيجاد التحديات الصعبة بضمان الثقة في تلك المعلومات والأخبار ما أفضى لتحويل منصات التواصل الاجتماعي إلى حاضنة جديدة لنشر الأخبار الكاذبة، إذا جندت القوى السياسية كتائب إلكترونية لتحقيق أغراضها السياسية من خلال استهداف شرائح اجتماعية بعينها وبث سمومها الفكرية لاستقطاب هذه الفئة، وهو ما عانته مصر خلال الفترة الأخيرة إبان ثورة الخلاص وما تبعها من حرب على الإرهاب، حيث شهدت تلك الفترة رواجا غير مسبوق للشائعات فى مصر استهدفت بها الجماعة الإرهابية هدم أركان الدول والنيل من مؤسساتها وزعزعة استقرارها وهز الثقة بين الشعب والقيادة السياسية.
نشاط مستمر
بعد أن وضعت مصر أوزار حربها ضد الإرهاب لم ينل المصريون حظا من الراحة والطمأنينة حيث كان والعالم أجمع على موعد مع كورونا التى خلقت بيئة أكثر خصوبة لتداول الشائعات وسط تخوف عالمى من هذا الوباء وسقوط اقتصاديات عالمية، ثم نشبت الحرب الروسية الأوكرانية والتى كانت سببا فى التضخم داخل مصر وخارجها، ومعها ارتفعت الأسعار لتنشط معها الشائعات الاقتصادية التى لعبت على التشكيك فى قدرة الدولة على توفير الاحتياجات الأساسية من السلع الإستراتيجية، ومع كل حدث سياسى أو أزمة اقتصادية تنشط الشائعات مستخدمة أى وسيلة تكنولوجية، ويرفع مروجها شعار "الغاية تبرر الوسيلة" للوصول إلى أهدافهم الخبيثة وتحقيق مخططاتهم الدنيئة.
لم تكن مصر إلا مثالا على تطور الشائعات عبر الحقب التاريخية والحضارات الإنسانية، فمن المشافهة إلى الكتابة إلى الإنترنت حتى باتت الشائعات أحد أخطر وسائل حروب الجيل الرابع، قنبلة موقوتة قابلة للانفجار وإحداث الأذى ما لم يتم التعامل معها وإبطال مفعولها، سلاح يمكن بواسطته تدمير أفراد وعائلات ومجتمعات ودول، وهذا لا يحتاج لعدة وعتاد أو جيوش، بل يحتاج لأفراد يخططون ويصدرون وينشرون ليصطادوا الضحايا الأبرياء وبعض المغفلين.
ساحة النقاش