<!--<!--<!--[if gte mso 10]> <style> /* Style Definitions */ table.MsoNormalTable {mso-style-name:"Table Normal"; mso-tstyle-rowband-size:0; mso-tstyle-colband-size:0; mso-style-noshow:yes; mso-style-priority:99; mso-style-qformat:yes; mso-style-parent:""; mso-padding-alt:0cm 5.4pt 0cm 5.4pt; mso-para-margin:0cm; mso-para-margin-bottom:.0001pt; mso-pagination:widow-orphan; font-size:10.0pt; font-family:"Times New Roman","serif";} </style> <![endif]-->
قديما كانت المرأة تموت بموت زوجها فهل يصح أن يحدث هذا في النصف الثاني من القرن العشرين؟..
لست فتاة في شرخ الشباب. ولست عذراء لم تعرف طعم الحياة إلا في الوهم والخيال. بل إنني إمرآة عرفت الحياة، وتزوجت، وأنجبت.. ولم يبق في حياتها للخيال موضع.. ولكنني مع هذا وبعد كل هذا إمرأة... إمرأة بكل معنى الكلمة، كالثمرة الناضجة، لم تحرمها الأقدار من الجمال، ومن الرشاقة، ومن الصحة..
أجل. أنا إمرأة فياضة الإنوثة، في جلال الخامسة والثلاثين. ومع ذلك أجد نفسي مطالبة من أعز الناس عندي بأن أموت، أن أدفن نفسي حية، وأن أرضي بهذا في غير تذمر، فلا أفكر في الحياة التي تضج في أعماقي، ومن حولي، ما بقيت لي في الدنيا بقية...
إنه أبني حشاشة قلبي، الذي كنت له أما وأبا في آن واحد، منذ مات أبوه وهو في الخامسة، ولي من العمر يومئذ أثنتان وعشرون سنة.. فعكفت عليه حانية. وعندما تأزمت الحال لم أتردد في العمل في شركة كبيرة لأكفل له اليسر، والرفاهية، وتعليما راقيا في مدرسة من أحسن المدارس الأجنبية في مصر وأغلاها مصروفات... فقد كانت تلك أمنية أبيه وكانت أماني ذلك الأب في نظري أوامر مقدسة لا أضن في سبيل تحقيقها بشيء...
وكيف لا؟ أليس " رشوان" هو أول رجل تفتح له قلبي وأنا فى ريعان الصبا؟ ألم أعرف في ظله كل معاني الحب، والحنان والإعزاز؟ ألم يكن ملء القلب والعين وسامة ورجولة ورجاحة عقل وصفاء نفس؟ ألم يعلمني كيف أحترمه وأعبده من بعد الله؟ فلما أنجبنا بعد عام من الزواج وحيدنا " صلاح" كان موضوع عبادتنا المشتركة. أحببت الأب في أبنه. وأحببت الأبن في أبيه. ولم يكن لنا شاغل سواه. نقضي وقتنا في ملاعبته، حتى إذا نام، سبحنا مع الأحلام، وجعل رشوان يرسم المستقبل ما سيصنعه لصلاح، وأين يعلمه، وكيف يربيه، ويهيئ له أحسن الفرص في الحياة؟
أحلام ومستقبل، وقف دونهما فجأة طاريء المرض القاتل الذي لم يمهل زوجي الحبيب وأبا وحيدي سوى أيام.
وعلى فراش الإحتضار، والجنون يكاد يذهب بعقلي ويدفعني لأن أقتل نفسي تناول يدي، وطبع قبلة على مفرق شعري المنسدل على جبيني وكتفي، وقال لي:
أريد منك أن تكوني شجاعة. وأن تقسمي لي الآن قسما عظيما أمام الذي بيده مقاليد الحياة والموت، وإليه مرجعنا وحسابنا.. إقسمي لي أن تظلي مخلصة لي إلى الأبد، فلا تعرفين رجلا بعدي يا إلهام.. وأن تعيشي لأبننا صلاح، فتكوني له أبا وأما...
وبصوت يقطمه النحيب أقسمت تلك اليمين الرهيبة..
وهل كان في وسعي ألا أقسم؟ وهل كان من الممكن أن أفكر إلا في الإخلاص لذلك الحبيب الذي ملأ حياتي ولم يدع موضعا للتفكير في سواه اليوم أو غدا؟
وأخلصت. وعندما حاولت جدة صلاح لأبيه أن تستأثر به رفضت. وكافحت لاحقق أحلام " رشوان" في صلاح، كأنه مازال حيا يحققها بنفسه. ولما أوشكت الحال أن تضيق بنا، تعلمت الآلة الكاتبة وساعدتني تربيتي الأولى في المدارس الفرنسية، فوجدت عملا محترما في شركة كبرى، وهيأت لصلاح أن يلبس أفخر الملابس، ويقتني أحسن اللعب، وينتظم في أرقى المعاهد والنوادي.
وشب صلاح وهو يعرف من الجميع أي أم هي أمه. وسمع من الأسرة مرارا أي قسم عظيم أقسمته لأبيه وهو على فراش الموت، وكيف رفضت برا بذلك القسم أن تقبل الزواج من أكثر من خاطب ممتاز تقدموا إليها... فترعرع صلاح في ظل ذلك الجو، ورأى في نفسه المثل المجسم الحي لذلك القسم المقدس، والوارث لتلك التركة الرهيبة من الوفاء، التي يرفرف عليها بسلطانه رجل طواه الموت منذ سنوات وسنوات، بلغت في يومنا هذا نيفا وثلاث عشرة سنة.
وها هو ذا صلاح في العام الثامن عشر، أشبه الناس بأبيه طول قامة، وأناقة ووسامة، بل إنه لا يقل عنه استيلاء على قلبي، وإيمانا بحقه الكامل في: فهو ابني الوحيد، قائم مقام زوجي الراحل! يستأثر بالرعاية، ويراها من حقه وحده، ويستأثر بتفكيري، ويرآه من حقه وحده.
وتلك كانت الحقيقة.. الحقيقة التي قنعت بها إلى عام مضى..
كنت لا أحس بوجود شيء في الدنيا سوى صلاح. ولكن صلاح كبر، وبدأ ريش الطائر الصغير ينمو وجناحه يشتد، وأخذ يحلق وحده بعيدا عن الوكر.. فقد كبر الطفل وصار شابا. له نزهاته الخاصة، وأصدقاؤه الخصوصيون، ودوائر أحلامه واهتمامه الخاصة. ولم يعد " أبن أمه" وقرة عين أمه.
وبدأت أشعر بالفراغ، وبالوحدة. وبأن الذي كنت أشغل نفسي به لم يعد يشغلني، ولم يعد بحاجة إلى أن يشغلني وقد صار طالبا بالسنة الثانية في إحدى كليات الجامعة.
وفي تلك الفترة بالذات بدأ زميل لي في الشركة يتودد إلي. ولست أريد أن يكون في ذلك الكلام غموض. فهو ليس شابا طائشا، ولا مغامر نزقا، أو مخادعا... بل هو رجل رزين جدا، في الأربعين أو أقل منها قليلا. هاديء الطبع، لطيف المعشر، طيب القلب جدا.
وليس ما عنده عشقا لي. ولا هو حاول أن يوهمني بذلك. كلا. فهو زميلي منذ ست سنوات. وبيننا احترام متبادل وتقدير عميق. وكان متزوجا من بنت عمه فأصابها مرض في القلب من أربع سنوات، فلم يدخر وسعا في تمريضها علاجها إلى أن ماتت منذ سنتين، فكان حزنه عليها شديدا جدا. وشعر " فكري" بالفراغ، ولا سيما إنها لم تنجب- خوفا على حياتها من الحمل- فأذعن للقضاء، وخفق قلبه وعقله معا لشريكة ناضجة مجربة رزينة تقدره ويقدرها، ويواجهان الحياة معا في أمل، وتعقل، وصفاء نفس... فيكون كل منهما رفيقا وصديقا لصاحبه.
ووجدت قلبي يميل إليه.. ووجدت ذلك الميل يزداد كلما شعرت بالفراغ الذي تركه ابني في حياتي وقد استقل بشخصيته وعواطفه وتفكيره عني. وأدركت إلى أي حد كان القسم الذي أنتزعه أبوه مني في لحظة الجزع قيدا قاسيا، بل وحشيا تحملته سنوات لأنني لم أكن أشعر بفداحته، إذ كنت مندفعة بمحض شعوري نحو أبني، ونحو العاطفة الصادقة التي كفت لملء قلبي إلى جانب مشاغل الأمومة ومحبتها... وأما وقد تقلصت مهمة تلك الأمومة، فقد ظهر القيد واضحا في قسوته وجبروته...ومع الأسابيع زادت استجابة نفسي وتفتحها للأمل، وللحياة. لحياة أكون فيها عنصرا عاملا فعالا: أمنح السعادة والدفء، وأستمتع بالسعادة والدفء. وليست حياة لا آخذ فيها من الدنيا ولا أعطيها!
ووجدت نفسي أحب " فكري"، وعاد قلبي إلى نبضاته التي كان قد نسيها، وضج جسدي الناضج يطالب بحقه الممطول وذكرني كياني أنني إمرأة، وإمرأة شابه ولست أما وأرملة وكفى!
إن الحياة لا تعترف بالموت. كلا! ولهذا فقلبي النابض يرفض الخضوع لعهد رجل مات!
ولكن أبني. حشاشة قلبي. ما لي أراه يقابل زيارات " فكري" بامتعاض صامت؟
هل أفاتحه؟ هل أتفاهم معه؟ وكيف أفهمه الموقف؟.
لقد منعني حيائي. ومنعتني كبريائي ولا أنكر أنني خفت أن أضعف أمامه فأظلم نفسي! فقد كنت أحب. وحب بنت الخامسة والثلاثين.
وفي الصيف الماضي، بعد أن نجح صلاح ونقل للسنة الثالثة في كليته دخلت عليه ذات يوم في حجرته وقلت له باضطراب، وأنا أبلع ريقي:
- أبني. الحمد لله أنت قد كبرت وصرت رجلا، ولم تعد بحاجة ملحة إلي، ثم غلبني الإضطراب، فانحدرت دموعي على خدي... ورأيته جامدا، لا يمد إلي يدا، بل ينظر إلى الأرض، ولا يريد أن ينظر في وجهي، فأجهشت، ثم خرجت من الحجرة...
هل أذهب؟ إن" فكري" ينتظرني الآن لنذهب إلى المأذون. فهل أتركه ينتظر وأبقى لوالدي؟ ما أشد قسوة الشباب! ألا ما أشد جهالته بمآسى القلوب وسلطان الحياة!
ووجدتني أنطلق إلى حيث ينتظرني فكري.
وفي المساء تركت ورقة صغيرة لصلاح، ومبلغا من المال، أخبره أنني سأمضي أسبوعا في المصيف مع زوجي الذي يبعث إليه حبه وتحيته...
وعدت من المصيف لأجد صلاح قد ترك البيت إلى حيث تقيم جدته لأبيه، فأحسست كأن وترا في قلبي قد تمزق وبكيت حتى تقرحت عيناي.. ولكن ماذا أصنع؟ ولماذا لا يحاول أبني أن يخرج من أنانيته ليفهمني؟ إن زوجي رجل لطيف ودود طيب القلب، وهو لا يتمنى شيئا كما يتمنى أن يحبه صلاح ويأنس إليه...
وتوجهت لمقابلة صلاح.. فقابلني مقابلة فاترة، في أدب رسمي وألم صامت. وحاولت أن أنفد إلى مفاتحته بقولي:
- قريبا يا ولدي تتم دراستك، وأفرح بك وبعروسك...
فنظر إلي نظرة شذراء وقال بعجرفة:
- أنا أتزوج؟! لماذا؟ وهل أنا أحمق؟ إن المرأة مخلوق لا عهد له ولا إخلاص!
وتلقيت اللطمة في صمت. ولو طاوعت نفسي لصرخت ألما.. ولكن ما الفائدة إنه لم يفهم إلا فيما بعد، من دروس السنوات وكما فهمت أنا. وعندئذ يكون قد فات الآوان. ولو أنني انتظرت أن يفهم لفات الآوان، أواني أنا... فالحياة تضج في أعماقي ولاتمهلني!
ولم اجد ما أقول. بل لم أجد جدوى للكلام.. فتركته، بعد أن ألححت عليه ألا يحرمني من الزيارة حينا إلى حين...
ووحدي في البيت، جلست استرجع حياتي، وأسال نفسي:
- هل أخطأت؟
إن حشاشة قلبي يراني أخطأت، بل أجرمت، ولكن هل كان في وسعي ألا أخطيء في نظره؟ هل كان في وسعي أن أصم أذني عن صوت قلبي وجسدي، وعن نداء الحياة؟ ولماذا أضحي بنفسي وحياتي؟ من أجل لا شيء! من أجل ميت لا ينتفع بي، بل يتحكم في ظلما وطغيانا. ومن آجل رجل انفصلت حياته عني بعد أن جعلت من الطفل رجلا...
ولكن عزائي إنه حين يتمرس بالحياة، سيعرف معنى الحياة، ويومئذ سيدرك سرامه، وهو إنها كانت إمرأة...
ساحة النقاش