اين تقف فتاة القرية من الحياة الحديثة؟ و الى أى مدى استطاعت أن تسير على طريق المدينة و التقدم؟ و ما هى أهم المشاكل التى تصادفها فى طريق تقدمها؟ و كيف يمكن التغلب على هذه المشاكل؟

    أسئلة كثيرة فى هذا الاتجاه كانت تدور فى رأسى،و أنا فى طريقى الى مدينة بنه. كنت على موعد مع أكثر من خمسين فتاة تتراوح أعمارهن بين السادسة عشرة و الثامنة عشرة،و هذه المجموعة تمثل فتاة القرية بما فيها من ذكاء فطرى و سذاجة مستحية و بساطة تضفى على النفس الهدوء و الراحة،و فوق ذلك فهى تنسق طريقها الى ميدان الحياة الجديدة بسلاح العلم و الثقافة.

مشكلة الابناء
    فى الحقيقة، كنت أتوقع أن تكون مشكلة التقاليد هى أهم و أخطر المشاكل التى تعانى منها الفتاة التى خرجت من القرية الى المدينة،و لذلك كانت مفاجأة أن أجد مشكلة الأخوة و الأخوات هى المشكلة الرئيسية فى حياتهن، أن كل فتاة تروى قصة أسرتها بدموع عينها، البيت مزدحم بحيث لا يجد الابناء مكانا لنومهم و المسئولية تمتص كل قرش بحيث يعجز الاب عن الوفاء بالتزاماته.

    قالت طالبة فى مدرسة المعلمات: أن كثرة اخوتى اورثتنى كراهيتهم! قد يبدو هذا غريبا،و لكنها الحقيقة،و ربما كان ذلك نتيجة أحساسى بأنهم السبب فى متاعبى و عدم تحقيق أمالى.

    نحن عشرة أخوة و أخوات،و أبى موظف صغير،و دخله لا يكفينا أطلاقا،و لذلك فلا يمر شهر دون أن نستدين،و كثيرا ما تصاب كرامتنا بسبب هذه الديون.

    فقد أجبرنى أبى على أن أغير اتجاهى فى المدرسة، كنت أريد أن أدخل المدرسة الثانوية، ثم التحق بالجامعة،و لكنه أصر على أن أدخل مدرسة المعلمات لانتهى من تعليمى سريعا،و أستطيع معاونته فى تربية أخوتى.

    و فتاة أخرى لها ثمانية أخوة تقول: لقد توفى أبى و لم يكن أحدنا قد استعد لمواجهة الحياة. أضطر أخى الاكبر للعمل لينفق على أسرتنا،و أتجهت أنا الى مدرسة المعلمات حتى أستطيع بعد فترة قصيرة أن أتحمل جانبا من عبء الاسرة مع أخى. ألست معى فى أن هذا العبء ثقيل،و كان يكفى أن نكون ثلاثة أفراد فقط!!

    و قصة ثالثة ترويها فتاة لها 12أخا و أختا. تقول: حصلت على الثانوية العامة،و كان مجموعى للالتحاق بالجامعة،و لكن أبى أصر على أن أعمل بشهادتى المتوسطة حتى أعينه على مسئولياته أن هذه التضحية تسبب نفورا بين الاخوة، فالذى يحدث أن بعضهم يتعلم تعليما متوسطا، بينما يجد غيره الفرصة كاملة لاتمام تعليمه، و هكذا يختلف حظ أفراد الاسرة الواحدة من التعليم بصورة تسبب النفور و الضغائن.

    أن أثر هذه المشكلة ينعكس ايجابيا على تفكير الفتيات الصغيرات. أن كل واحدة منهن تقسم أنها لن تنجب من أثنين كذلك فانهن يناشدن المسئولين فى وزارة الصحة أن يكثروا من مراكز تنظيم الاسرة فى القرى، فأن الدعوة للتنظيم لم تصل الى أغلب القرى.و من رأى أحدى الفتيات أن الدعوة للتنظيم يجب أن تسبقها توعية تقنع أهل الريف بأن البنت مثل الولد تمام. أن عقدة الولد تسيطر على أذهان الاباء،و هذا ما يدفعهم الى كثرة الانجاب و يستطرد الحديث الى نقطة هامة، أن التفرقة بين الولد و البنت تبدو واضحة فى حياة أهل الريف. لقد أستطاع التعليم أن يقضى على هذه التفرقة فى المدينة،و لكنها ما زالت موجودة فى القرية. الاسرة تردد دائما أن الولد بعشر بنات.

    و تقول الفتيات: أن الولد هو كل شئ فى حياة الاسرة.و هو الذى يملك زمام بعد والده و لو كان ابن تسع سنوات.و تظل البنت بلا قيمة ولو كانت أكبر و انضج و أكثر أدراكا للامور.

    و تروى احدى الفتيات حكاية أسرتها، فتقول: لقد تزوج أبى ثلاث مرات لكى ينجب ولدا،و كانت النتيجة أن أنجب عشر بنات قبل أن ينجب الولد.و لك أن تتصورى المأساة التى نعيش فيها.. لا نقود ولا رعاية ولا ترابط بيننا كأسرة. أننى لا أرى أبى الا مرة واحدة كل شهر و هو يحضر الى البيت كأى زائر غريب، ففى أعتقاده أن بيته الحقيقى هو حيث يوجد الولد.

    و قالت فتاة أخرى: أن أبى يحرمنى أنا و أخوتى البنات من كل شئ ليعطيه لاخينا وحده. و قد رفض أن تلتحق أى واحدة منا بالمدارس الا بعد أن ينتهى الولد من تعليمه.
    حكايات كثيرة سمعتها تدور حول هذا المعنى،و تنتهى الى نتيجة واحدة،و هى أن البنت بلا قيمة أجتماعية أو أنسانية فى نظر أهل القرى.

طليعة نسائية
    ولقد لفت نظرى خلال هذه المناقشات أن الفتاة التى خرجت من قريتها ترتدى الثوب الاسود الذى ترتديه كل الريفيات، تتمتع بمستوى رفيع من النضج و التفكير و الادراك. أن التقاليد الصارمة تشدها من جانب،و لكن ذكاءها الفطرى و استعدادها الطيب للتعليم و المدنية يجذبانها خارج قوقعة التقاليد. و لقد وجدت بين المجموعة التى التقيت بها فتيات يعتبرن طلائع نسائية فى بيوتهن و قراهن، تزوجت أخواتهن الكبيرات فى سن صغيرة كن فيها على أعتاب الانوثة.و كان المفروض أن يكون لهن نفس المصير،و لكنهن رفضن هذا الوضع،و دافعن عن حقهن فى التعليم و استطعن الوقوف فى وجه التقاليد البالية.

    و فتاة القرية التى خرجت الى المدينة ترى أن دورها و رسالتها فى ميدان القرية نفسها،و قد اتضحت لى هذه الحقيقة المشرفة عندما سألتهن عن المكان الذى يرغبن العمل فيه بعد التخرج، فكان الجواب بالاجماع هو: القرية طبعا.

    و الوفاء للقرية يتمثل فى الحرص على المظاهر أيضا. أن هذه الطليعة تؤمن بحتمية التطور،و لكنها ترى أن يتحقق تدريجيا.و لذلك تكون مدنية فى المدينة و ريفية فى القرية. أنها ترتدى الثوب الطويل،و تتحجب بمجرد أن تنزل من القطار. و هى تفعل ذلك حتى تقطع السنة السوء.

    و لكن أحدى الفتيات لها رأى آخر فى هذه النظرة، أنها تقول: نحن نمثل الطليعة النسائية الجديدة فى الريف،و لذلك يجب أن نكون نقطة التحول فى حياة القرية.. فى كل شئ حتى فى الزى. صحيح أننا لن نتمكن ن ذلك ألا بعد فترة طويلة، و لكن علينا واجب المحاولة.

    و تعترض زميلة قائلة: و ماذا يكون موقفنا من الاتهامات التى سوف توجه لنا فى هذه الحالة؟ أن المفروض فى وسائل الاعلام أن تقوم بهذا الدور القيادى.و أن تمهد لمحاولاتنا حتى تحقق النتائج المرجوة،و تجنبنا القيل و القال.

    و تدلل أحدى الفتيات على هذه الحقيقة، فتقول: أن المسألة تتصل بتقاليد مجتمع القرية أكثر من أى شئ أخر و ليس أدل على ذلك من أن أبى يؤمن بحق المرأة فى الحرية و المساواة،و مع ذلك فأنه يرفض أن نرتدى الفساتين، أو نجلس مع الاقارب، أو نخرج بمفردنا فى شوارع القرية،و السبب أنه يخشى كلام الناس

أين مكان المرأة
    و الحديث عن دور التقاليد فى حياة المرأة الريفية ينتقل من الفتيات أنفسهن الى الامهات، أن صورة العلاقة بين الاباء و الامهات صورة كئيبة لا ترضى بنات الجيل الجديد، فهى تقوم على أساس العلاقة بين السيد و التابع. أن الرجل لا يعنيه أى شئ الا أن تجاب طلباته على الفور، بصرف النظر عن تعب الزوجة أو أرهاقها أو كثرة عبائها و فى رأيهن أن هذه الصورة تسئ الى الرجل و المرأة على حد سواء.

    تقول أحدى الفتيات: أن الدرس الذى يلقنه الاهل لفتاتهم عند الزواج هو أن تطيع زوجها على طول الخط،ولا تعارضه أو تناقشه فى أى أمر أو تصرف.و بهذا المنطق تصبح المرأة بلا قيمة فى مجتمع الاسرة الريفية.و هذا الاحساس ينسحب على تفكير الفتيات، فهى تدرك أن أمها لا تساوى شيئا،و الأب هو كل شئ.

    و من خلال هذه الصورة تنطلق من أفواه الفتيات دعوة جماعية.

المصدر: مجلة حواء

ساحة النقاش

hawaamagazine
مجلة حواء أعرق مجلة للمرأة والأسرة المصرية والعربية أسسها إيميل وشكرى زيدان عام 1955، وترأست تحريرها الكاتبة أمينة السعيد، ومن يوم تأسيسها تواكب المجلة قضايا وهموم المرأة والأسرة المصرية والعربية. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

22,812,151

رئيس مجلس الإدارة:

عمر أحمد سامى 


رئيسة التحرير:

سمر الدسوقي



الإشراف على الموقع : نهى عبدالعزيز