غــــريــــب جـــــدا
"صورة من الماضي"
قصة بقلم : حمدى عمارة
رسوم :محمد سالم
"منذ أكثرمن ساعتين، و«زعتر أفندى» قابعا بصالة شقته فى عتمة الليل، عيناه مفتوحتان، وبصره غير مستقر، و«زعتر»، ليس هذا اسمه بشهادة الميلاد، فكيف ذلك وهو مدرس اللغة العربية، ويملك كل مؤهلات الاحترام: الطول والعريض، والرأس الكبيرة الصلعاء، و«الكرش» المنتفخ أمامه كالقدر ؟! وكيف لأبيه الحاج «معاذ» شيخ البلد أن يسميه بهذا الاسم المثير للضحك والسخرية ؟! ولا لأمه الحاجة «هند»؛ فهو ثالث إخوته الذكور، وليس ما يدعو لاسم مضحك يخزى عنه الأعين.. الحقيقة أنه من ابتكار الطلبة «الأشقياء» بالصف الثالث الثانوى .. ولهم مبررهم وفق هواهم، أو عذرهم !
فى البداية، كان اللقب الجديد يثير حنقه، ويخرجه عن شعوره.. ولكن بمضى الأيام والإصرار عليه، لم يكن بدا من استساغته مهما كان لاذعا ولو لم يأت «زعتر أفندى» بتصرفات مضحكة لما ضحك منه الطلبة، ولما تعرض لمقالبهم وأحابيلهم دون بقية المدرسين.. وهو من أولئك الذين يتشبثون بالقديم، ويرفضون التجديد، ويعدونه خروجا عن اللياقة، وانحرافا عن قواعد الأخلاق، ولذا كان دائم الخصام والصدام مع كل جديد.. وكان لا يجد نفسه، إلا فى الاجازة الصيفية التى يقضيها فى قريته ومسقط رأسه، فهناك يلتقط أنفاسه، ويستشعر العزة والكرامة بين أهله وعشيرته، الذين لا يعرفون بلقبه الجديد.
ضاق «زعتر أفندى» بالظلام، قام وأضاء المصباح.. سحب صحفية الأمس، فتحها، وتأمل السطور المتراصة.. لم يقرأ شيئاً، إذ شرد بخياله بعيدا فى المدرسة، وفى فصل ثالثة ثالث.. وقف بالباب الموارب يلوك الطعام الذى امتلأ به فمه، ويلعق بقاياه من على شفتيه، ثم يخرج منديله، ويمسح ما علق بفمه وصدغيه، فلا يصح أن يدخل الفصل على هذه الصورة !..
فجأة تمثل الجد، إذ أطبق شفتيه، وعقد مابين حاجبيه، وتنحنح بصوته الجهورى.. ثم دخل مندفعا و«كرشه» للأمام، ليضج الطلبة بالضحك: «ما الذى يضحك هؤلاء الأوعاد ؟!»
كثيرا ما وقف طويلا يتأمل صورته فى المرآة، عله يقف على مبعث الضحك، ولكن لم تنبئه المرآة، بل كانت تتسع ابتسامته؛ حين يتأمل جسده العملاق، وطوله الفارع ! لم يضحكون إذا ولم يلقاه زملاؤه بابتسامتهم الخبيثة ؟!.. لكم كره الوجوه الضاحكة، ولكم تفزعه أصوات الضحك كأنها أصوات مردة مخابيل، والابتسامات الخبيثة سم زعاف فى عسل !
وضع حقيبته العتيقة فوق المنضدة.. أحكم نظارته السميكة العوينات.. والضحك على أشده.. بحركة لا إرادية، خلع الطربوش فعلا الضجيج.. بالطبع يعلم الجميع أنه داخل هذا الفصل، ويعلمون أيضا على من يضحك الطلبة.. لو يستقيل من عمله و.. ولكن بالبيت فصل آخر !.. لا أحد يؤمن برأيه، ويعتبرونه متخلفا زوجته الحضرية هى رائدة البيت، والمهيمنة على كل صغيرة وكبيرة.. ليته تزوج من بنات قريته.. كن جميعا يحلمن به.. أو ليته ما قدم إلى المدينة !
المهم، ماذا يصنع، وكيف يخرج من هذا المأزق ؟ الطلبة لا يكفون.. أيغادر الفصل ويعرض نفسه لتوبيخ الناظرة، وألفاظها النابية ؟.. ناظرة فى المدرسة، وناظرة فى البيت !.. أيهجم عليهم، ويعمل فيهم ضربا و«تلطيشا» ؟ .. ولكن كيف، وكلهم فتية، وفيهم من يفوقه طولا وعرضا وقوة ! «كنت فى شبابى فتيا قويا.. ألا ليت الشباب يعود يوما ؟!».
لو أنه وقف على السبب، لعالج الأمر.. تبا للمرآة التى تجامله دوما.. لمحهم ينظرون إلى السبورة خلفه .. استدار فانفجروا بالضحك .. صخبت الوحوش الصغيرة .. بدا الصخب مظاهرة، وهتافاً بكلمات خارجة، وخبط على الأدراج، وصفير ! بدا الفصل مسرحا يعرض مشهدا هزليا.. على السبورة عبارات تمس شخصه، ورسوم كاركاتيرية تسخر منه.. التفت نحوهم..علا صوته ينهرهم .. ذاب صوته وتلاشى.. شبك يديه خلفه، وراح يتفرس فى وجوه الطلبة واحدا تلو الآخر، عساه يكتشف الفاعل.. لم تسعفه فراسته .. والطلبة لا يتوقفون..لم يجد إلا أن يلبس طربوشه، ويختطف حقيبته، ويطلق ساقيه.. زر الطربوش يتراقص، و«كرشه» يهتز.. بلغ حجرة الناظرة لاهثا، بينما يحأر بالشكوى، لحدجه الناظرة بنظرة ملؤها الاستخفاف !
طافت بخياله صورة قطار العودة.. تجهمت أساريره.. القطار يزعجه أيضا القرية ساكنة هادئة، ومناظرها تشرح الصدر، وتبعث الأمان .. بائع الصحف يندس بين الركاب، يدفع الأجسام، ويدوس الأقدام.. يتمايل فتتمايل معه كتل الزحام.. الناس يكشرون ويحتجون ويشتمون، وتشرئب عنق البائع، ويرفع عقيرته:
- المساء.. المساء .. اقرأ، الابن الذى قتل أباه.. المساء .. المساء.. اقرأ..
صوت البائع مازال يرن فى أذنيه، ويرج قلبه رجا.. سرى الخوف سريان دمه، فانكمش على نفسه.. تصبب العرق من جبينه رغم برودة الجو.. أطفأ المصباح كى تنقشع الصورة !
عيناه كعينى القط تلمعان فى الظلام.. الظلام يفزعه، وأصوات الطلبة، وعينا الناظرة، وعينا زوجته فى القرية، عيون الناس تحمل الوداعة، ونظراتهم برئية تبعث على الطمأنينة صوت البائع يخرس كل الاصوات، ويشق هدأة الليل.. ويزلزله.. انكمش .. تكور.. لو خلقه الله قنفذا لحمته الأشواك ! «ابن يقتل أباه !».
اختلس نظرة نحو حجرة ابنه .. تلفت من حوله.. السكون يعم المكان، إلا من غطيط زوجته .. غطيط الناظرة يزعج زوجها .. افتر ثغرة عن ابتسامة بلهاء .. قام كهر يتحسس الأرض بأصابع قدميه .. خطا نحو الحجرة إياها .. كتم أنفاسه .. انحنى .. نظر من ثقب الباب.. اصطدمت عيناه بالظلام.. قرب أذنه وأصاخ السمع.. الابتسامة البلهاء لا تدع شفتيه، وعيناه فاغرتان مذعورتان.. ولى مدبرا.. التصق بالحائط المقابل.. سمع ضحكته.. ابنه يسخر منه كالطلبة والمدرسين.. انسل الى حجرته.. غطيط زوجته لا يتوقف .. تأفف .. كانت لطيفة فى شهر العسل، وما كانت تغط ! .. تأمل وجهها المفلطح، وصدرها المكتظ باللحم.. ذهنه أيضاً مكتظ بالأفكار العقيمة.. وكذا القطار مكتظ بالناس كاد يوقظها، كيف وهى غارقة فى أغوار النوم السحيقة ؟! .. ولو صحت لن يسلم من لدغ لسانها فليظل وحده مع أفكاره البالية، وحده فى المدرسة والقطار.. وحده يعيش فى الماضى .. فى ربوع القرية.. كم كان يعشق لعبة الاستخفاء.. لم يكن يخاف الظلام، بل كان يندس فى العتمة ليفوز .. صوت البائع يطن فى أذنيه .. يخترق الحجب ليؤذى سمعه.. البائع بين الطلبة والركاب.. كل يثرثر.. صوت البائع يجلجل .. قتل الإبن أباه حقيقة و.. ولن تعيده الثرثرة ولا الصراخ، ولو ملأ الآفاق.. الطلبة يقفزون من فوق السور يولون الأدبار، لقد أفزعهم صوت البائع.. الدم الأحمر يقطر من بين الصحف، ويسيل على الأرض.. من الأرض ترتفع السنة اللهب، وتندلع نحو السماء، لعلها تستجير.. تحرق ما يصادفها .. تنتقم .. الناس يصرخون.. العرق يتصبب من جبين «زعتر أفندى».. هرول إلى الصالة.. ثم إلى حجرة ابنه .. ينظر من ثقب الباب، إنه ليس نائما، بل يصطنع النوم،السكين تحت وسادته و.. يتحين الفرصة ليقدم على فعلته.. سيذبحنى.. نعم، إنه يفكر فى ذبحى منذ أيام .. كان شديد القلق، وكان حائرا.. كان يروح ويغدو فى هذه الصالة.. كان ينظر فى كتابه.. بل كان يحبك مؤامرة، وكان باهت الوجه.. لابد أنه يهب الآن من فراشه، ويسحب السكين من تحت الوسادة .. ها هو يقبض عليها.. السكين تلمع كأسنان الناظرة حين تكشر عن أنيابها .. يخطو نحو الباب، سيفتحه، ثم ينقض على ويسفك دمى، ويراه مراقا.
علته ابتسامة فزعة.. اصابت الرجفة أعضاءه.. ارتخت شفته السفلى.. ترنح نحو الباب.. سأضبطه متلبسا وأقبض عليه قبل أن يرتكب جريمته، وأنقذ عنقه من حبل المشنقة، ومن وجه عشماوى الوحشى وأنقذ نفسى .. ما أحلى الحياة !.. لن يراق دمى، ولن أدعهم يثرثرون .. وما لبث أن هرول نحو الباب دافعا إياه، فاصطك بالحائط و.. أمسك بالظلام .. جسده ينتفض .. يداه تستميت على لا شىء .. يبحث بيمناه المتشنجة زر المصباح، ويسراه تلوح فى الفضاء كمروحة كأنما أراد أن يدفع نصل السكين.. بدا الهواء ثقيلا.. جسد يرتمى عليه، ويد حديدية تقبض على رسغه.. تعتصره، وصوت كفحيح: «سأقتلك» .. صرخ «زعتر أفندى» .. لعلع صراخه، لعلهم يختفون لنجدته من مخالب ابنه.. وأخيراً عثرت يده على الزر، ضغط عليه فبدا النور، وليهتف الابن مذهولا: «أأنت يا أبى ؟!».. اتسعت عينا الأب، وعلا صراخه:
- أ تتمادى فى حبك تمثيليتك .. أ تريد قتلى ؟! ماذا صنعت لكى تقتلنى ؟!.. أ تريد أن تفعل مثله لتصبح حديث الناس ؟!.. الأبناء فى القرية لا يقتلون آباءهم .
ولم يتوقف عن الصراخ كأنما أصيب بعيار نارى.. هب أفراد البيت مذعورين، والجيران.. هرعوا إلى حيث الصراخ.. كان ذهولهم، حين رأوا الأب يمسك بتلابيب الابن.. عقدت الدهشة ألسنتهم.. الأب مازال مسترسلا فى صراخه .. صحت الأم حانقة.. أتى إلى سمعها صوت الزوج: «إنه ينوى قتلى.. اقبضوا عليه..» وقفت الزوجة تنقل بصرها بين الزوج والابن، والمتفرجين.. عادت تسدد نظرة نارية إلى زوجها.. امتدت يدها إليه فسكن عن العواء.. وجعل يتفحص الوجوه وقد اتسعت ابتسامته البلهاء : «لم أمت !.. أين الدم ؟!.. لقد رأيته مراقا، ويقطر من بين الصحف.. قالها البائع البارحة أو.. أو كان يثرثر ليروج بضاعته ؟! الصحف خادعة وتنشر الأباطيل.. والبائع ولد ماكر.. لكن الولد هددنى.. أمسك بيدى وكاد أن يفعلها عندئذ خطت الأم نحو الصالة حيث «التليفون».. أدارت القرص.. سمعتها الابنة تقول:
- بسرعة يا دكتور من فضلك .. زوجى فى حالة غريبة.. غريبة جدا !».o
رسوم :محمد سالم
q
ساحة النقاش