الساعة السادسة
قصة بقلم :حمدى عمارة
إنها أمنية، قد لا ترقي في رأيك إلى هذه المرتبة، وقد تتضاءل لتبدو شيئا تافهاً؛ لا يستأهل منك بعض نظرة.. إلا أن هذا لن يغيّر من الأمر شيئاً.. المسألة نسبية، تختلف من فكر إلى فكر، ومن طموح إلى طموح.. وتتغيير وفقا لظروف المرء النفسية، والمزاجية، والمكانية! .
وقد تتحقق كلياً، أو بعضها .. أولا تتحقق بالمرة، المهم أن تظل متألقة فى الأفق، وعائشة فى الوجدان.. لا تخبو ، ولا تخبو، ولا تنزوى .. وأكاد أن أقول : أنا أتمنى ، إذا أنا أعيش ! .
طوحت بنا الأقدار إلى حيث هذه البقعة النائية من أرض الله الواسعة .. هى قرية كغيرها من القرى الصحراوية ، تسورها الرمال والهضاب على مد البصر ، تتخللها التلال كالمقابر .. والرياح لا يطيب لها السكون .. تدوى وتزمجر ، تعصف وتقصف، ويسمع لها عواء ! .. والأتربة المجنونة تلسع الجفون، وتغذى العيون، وتأبى إلا أن تتخلل الأطعمة، وتغشى الملابس والأغطية. والشمس الحارقة تشوينا ، والبرد يكسر عظامنا، وحلكة الليل تسد أمامنا الطرق والشعاب . والعقارب الغاشمة تشهر إبرها وتصر على الانتقام منا ! .. والصعوبات تعوق كل أمورنا، والحنين لا يرحم أفئدتنا من اللوعة والاحتراق.
أمنيتنا وحيدة : «الأتوبيس» ، ذلك الضيق الرزين الذى يزورنا مرة واحدة، مع مغيب شمس اليوم، وهو بالنسبة لنا : الحياة!؛ إذ يذخر بحاجاتنا، وكذا أخبار القرى على طول الرحلة.. إذاعة متنقلة .. يتيمة، إذ تتأبى الإذاعات علينا .. ويحمل صحف الصباح، وصحف مساء البارحة. ويقل أيضا: السيد الإمبراطور، على حد تسميتنا للبوسطجى : تلك الشخصية الآسرة، الزائر خفيف الوقع والظل، حيث يشرفنا بطلعته الاثنين من كل أسبوع، أو كل أسبوعين، حسب ذاكرته .. ومزاجه ! .
اليوم : الاثنين .. ليس أجمل أيام الأسبوع، بل أهمها ؛ فالأيام هنا لا توصف بالجمال.. مشاعرنا موزعة بين القلق والنشوة والرهبة.. والأمل. فى ذلك اليوم نتناسى كل شىء، حتى بطوننا، فنكتفى لها بعشاء الأمس ! ، وتتوقف حركة الحياة ؛ إلا من انتظار المحتوم .
«الأتوبيس»، والسيد الإمبراطور ، والأمنية : رسالة .. تتلاقى الأعين .. تتحاور بلا موضوع .. مشغولون دون شغل ، ولا تتردد سوى كلمتين :
- الجوابات اليوم .. اليوم الجوابات ! .
نذوب شوقا إلى ما تحمله السطور .. مئات السطور ، وأخبار تتعدد وتتباين ، ولكل أثره وصداه.. نجأر بالشكوى و.. ولمن نشكو ؟! .. ليس إلا أن نتشاكى .. كل يفض ما فى نفسه ما يثقل عليها، فكلنا مطوح إلى هذا الوادى الجاف السحيق، فهذا يقول فى ثقة أقرب للغرور :
- سيأتينى من الخطابات العديد كما عهدتم، وكلها مهمة، وخطيرة! .
وآخر يقول متوسلا :
- ليتنى أحظى برسالة واحدة من أى إنسان ! ..
ويأتى صوت قانط ، واهن كأنما يأتى من أعماق بئر :
- أعرف حظى مسبقا، فلن أحظى بإياها و .. وكأنى مقطوع من شجرة ! .
ويرد عليه الواثق المغرور:
- سأعيرك خطابا ..
ويضحكان ، وشتان بين الضحكتين .. ويداعب خفيف الظل :
- لو أن السيد الإمبراطور قريبى ، لأمطرنى بوابل منها ..
ويضحك أيضا !.. وتجد الابتسامة طريقها فى الوجوه! .. ليته يمضى هذا الوقت العصيب ! ..
ويفرد الصمت جناحيه، وتتجدد الانفعالات ، فتنطلق ضحكة بلهاء، وهذيان، وتأمل إلى الآفاق كل يعيش فى عالمه الخاص.. الفراغ من حولنا ، وأعماقنا تضج بالزحام.. نظرت فى ساعة يدى .. عقرب الثوانى النطاط يتواثب كأنه فى سباق ! ..
- مهلا أيها الشيطان رفقا باللهفى والحيارى ! .
كل يروح ويغدو على غير هدى ، كأننا مخابيل ! .. دقات النطاط ، وعذاب الحيرة، والهذيان ، والخيال.. الخيال يحلق حيث الماضى البعيد .. كنت صغيرا، أحس ولا أدرك، وأبى الذى يحس ويدرك، يذرع «الطرقة» مثلنا، أو أذرعها مثله.. كأنى أراه معنا.. يتكبد ما نتكد، وكتابة سوداء على باب أبيض موصد .. تهجيت كلمتيها بمشقة: «غرفة العمليات» .. أمى وراء هذه اللافتة والباب الموصد .. دخلت مسجاة على «نقالة» .. وهاهو أبى ينظر إليها بعينين والقلق على الوجه الممتقع ، وفى عينيه بصيص من الأمل.. أذناه جهاز استقبال، تلتقط كل لفظة وهمسة، وكانت دقات قلبه أسرع من النطاط المتوثب المتعجل .. هكذا وشت أنفاسه اللاهثة ، وصدره الذى يعلو ويهبط.. جمدت حدقتاه على ثغر الممرضة ذات الثواب الأبيض .. كان محياها منديا بالعرق، وعلته ابتسامة مطمئنة .. وبكى أبى ! .. وكنت أجهل سبب البكاء و .. ولكنى كنت أحسه و .. وماكنت أدرى أن الفرحة تثير البكاء والنحيب!.
الساعة السادسة ، والشمس تأذن بالأفول والرحيل، ومازال الرزين فى عالم المجهول ! :
- لعله تأخر فى إحدى القرى ..
هذا ماهتف به زميلى الذى يعتلى المبنى ، ليمارس مهمته : جهاز استطلاع .. أو زرقاء اليمامة ! .. الصدور تهتز ، والقلوب تدب كأنما تبث لحنا جنائزيا ، كعادة هذه القرية فى الإذاعة عن فقيد ! .. وما يلبث أن يعلو الصوت المرتقب ، ليتردد صداه فى الصدور.. لا أحد يخطئه .. ننطلق ، وتنطلق معنا القرية من كل صوب، كأنه جيش من الجراد! .. لون الرزين الأصفر يملأ عيوننا ، وسرعان ما نندس فى الحشد الهائل ، وتشرئب الأعناق لرؤية السيد الإمبراطور .. أيضا، لا أحد يخطئه ؛ فقد حفر الشوق صورته على صفحات قلوبنا .. نهرول ونبحث ونفتش، ونلتقى كل لحظة، ونتساءل :
- أين السيد الامبراطور؟!..
يبدو أنه عند هذا الجمع، أو ذاك .. ونتسابق هنا وهناك.. أيضا، لم يره أحدنا!.. لم يبق إلا تلك الجماعة النافرة.. أسرع أحدنا إليها، ومايلبث أن يومىء لنا متهللا .. أخيرا عثر عليه، وسرعان ما ننطلق إليه .. نتأمله غير مصدقين.. لكنه لا يحمل حقيبة الرسائل!، ويسأله الواثق المغرور، فيرد ببساطة وخيبة أمل :
- سرقت الحقيبة برسائلها وطرودها ..
شهقت الأفواه، وكلحت الوجوه، وبلغت القلوب الحناجر ، ولم ينصت أحدنا للخائب الذى أضاف :
- سرقها أحدهم ، حين تشاجرت مع راكب أراد أن يفتش فى الحقيبة.. عبث !.. أليست أمانة سيحاسبنى الله عليها؟! . فكيف أدعها لعبث العابثين؟! .. لقد اختارونى أميناو ..
زحفنا فى صمت، واكتسى الأفق باللون الأصفر الباهت ، واللون الأزرق على الشفاه، وانزوى الأمل إلى حين ، ومازلت أردد فى نفسى :
- «أنا أتمنى .. إذا أنا أعيش !
ساحة النقاش