ماليفيتش صاحب لوحة أبيض على أبيض

. ونـزهــة خلـويــة فى الأعيــــاد

كتب : صلاح بيصار

يعد الفنان الروسي كازيمير ماليفيتش أحد أعلام الإبداع الكبار في القرن العشرين.. وقد أحدث انقلابا في الفن التشكيلي .. ورغم أنه بدأ واقعيا وانتقل إلي الانطباعية التي تعتمد علي اللمسات القصيرة متأثرا بنجومها من الفنانين الفرنسيين.. كما تأثر بالمدرسة المستقبلية التي ظهرت في ايطاليا والتي أكدت علي عنف الحركة في لوحة التصوير ارتباطا بالتطور التكنولوجي وحركة الآلة.. إلا أنه قد ثار علي كل هذا وجعل له اتجاها في الفن أطلق عليه «السوبرماتيزم» من السوبر بمعني الأعلي أو الأسمي والأكثر تفوقا.. واعتمد من خلاله علي التخلص من كل ماله صلة بالطبيعة والبشر وعناصر الحياة وانتقل إلي عالم هندسي يعتمد علي المربع والمستطيل والدائرة.. تأكيدا علي النقاء والصفاء واختزال الفن من واقع الأشياء وزحامها وضغوطها.. هذا علي الرغم من أنه جسد من قبل روح الطبيعة بشفافية وعمق واشراق خاصة في لوحاته التي صور فيها مرح البشر في الحدائق وعلي البحر ll

بين روسيا وبولندا

ولد ماليفيتش عام 1878 فى مدينة كييف بروسيا وتنتمى أسرته إلى الأصول البولندية.. وكان والده يعمل مديرا لأحد معامل السكر ويعد أيضا أحد التجار الكبار فى أوكرانيا.. ومع نجاحه فى التجارة كان مثقفاً وعالماً فى الفولكلور الشعبى .. وقد نشأ ماليفيتش بين أطفال الأسرة والذى بلغ عددهم 14 طفلا وكان الابن الأكبر وفى عام 1896 سافر إلى مدينة أخرى بحكم عمل الوالد الذى ترك الخدمة المدنية فيما بعد وذلك من أجل التفرغ لممارسة الفن وكان شاغله اللوحة .. كيف يبدأ ومتى ينتهى إلى أن صار ينجز أعمالا فنية .

وقد ظل الابن كازيمير فى طفولته الأولى كأى طفل يرسم ويتوقف ولكن وهو فى الخامسة عشر من عمره ظهرت ميوله الفنية بقوة عندما أهدته والدته مجموعة من الألوان.. وكانت بداياته الأولى واقعية يرسم الطبيعة كما يراها باحساسه وتأثر بعد ذلك بالمدرسة الانطباعية أو التأثيرية والتى ظهرت فى الثلث الاخير من القرن التاسع عشر بلمسة روادها من الفنانين الفرنسيين بدءا من مانيه ومونيه ورنوار.. ثم تحول إلى المدرسة المستقبلية مضيفا إليها أعمالاً تهتز من فرط التعبير بشخوصه التى جمع فيها بين التجريد والتشخيص بلمساته اللونية الغنائية .

مرح الطبيعة

تألقت أعمال ماليفيتش بمرح الطبيعة كما فى لوحته الشهيرة «المستحمات» 1908 والتى صور فيها بتلخيص شديد ثلاث مستحمات بالأبيض الشاهق البرىء على أرضية خضراء وحمراء وفى الخلفية يطل البحر والأشجار والأغصان ومساحة من الأفق فى زرقة صافية .

وله لوحة تقترب من التجريد «منظر طبيعى مع بيت أصفر وهى عبارة عن مساحات وبقع لونية يغلب عليها الأبيض والبرتقالى والبيت عبارة عن خطوط عرضية أفقية ورأسية متقاطعة.

وتعد لوحته «الناس فى الحديقة» 1903 لوحة مسكونة بالخضرة وتشابك الأشجار فى مقدمتها امرأة جالسة ورجل وامرأة وطفل وزحام من البشر بين الجلوس والوقوف فى الخلفية.. وهناك لماليفيتش لوحة «امرأتان فى الحديقة» يغلب عليها الاخضر والابيض وهى لوحة تجسد بالفعل روح الطبيعة ومرحها.

وفى عام 1908 قدم لوحته مجتمع فى قبعات حمراء.. دنيا من البشر فى حركة.. ومسرح بالأبيض على أرضية عشبية خضراء.. يلهون فى حديقة عامة.. فى ملابس بيضاء مع لمسات سوداء.. وقبعات حمراء.. وهى لوحة بمثابة نزهة خلوية فى الأعياد.

ولماليفيتش أعمال جمع فيها بين الايقاع الهندسى وبين التشخيص مثل لوحة الحصاد .. ولوحة فلاحة ولوحة فلاح وتتميز كلها بألوان وضاءة غنائية .

أبيض على أبيض

شارك ماليفيتش فى اعداد ديكورات الأوبرا ذات الطابع المستقبلى «الانتصار على الشمس» والتى ظهر فيها لأول مرة مربع أسود.. وفى عام 1915 قدم لوحته الشهيرة المعروفة «المربع الأسود» التى خطا بها إلى العالمية وهى عبارة عن قطعة قماش مربعة رسم عليها مربعاً أسود على خلفية بيضاء.. كما ظهرت لوحته الأكثر شهرة «أبيض على أبيض» وبعدها قدم سلسلة من اللوحات فى هذا الاتجاه .. عبارة عن مربع أبيض فوق مسطح أبيض. والألوان البيضاء هنا تسطع بميزان مثالى يؤكد «السوبرماتيزم» والأبيض هنا هو الحرية اللانهائية واللامحدودة .

وهو يهدف من ذلك إلى الوصول بالفن إلى حد الصفر بعيدا عن صور الطبيعة والمشخصات.. بمعنى آخر هدم الواقع والعودة إلى الأصول البسيطة حيث التحرر من التراكمات التخيلية للأشياء.. مع الاختزال فى الشكل واللون .. وقد أوجد مذهب السوبرماتيزم فيما بعد أجيالا سارت على نهجها فى الفن الأوروبى والأمريكى .. خاصة فى الستينيات والسبعينيات من القرن الماضى شكلت اتجاها يسمى «الحد الأدنى» أو المنيماليزم» وتعنى الوصول إلى أبسط الأشكال وأولية العناصر..

فى عام 1935 رحل كازمير ماليفيتش عن عالمنا وتم دفنه بضواحى موسكو ونصب مربع أسود على قبره رمزا للوحته الشهيرة.. وقد شيعت جنازته داخل تابوت على شكل مربع أيضا احتراما لمعنى الشكل فى أعماله.

وحاليا تباع لوحاته بالملايين وقد بيعت احداها بستين مليون دولار امريكى منذ سنوات .