استيقظوا قبل أن يأكل بعضكم بعضا

كتب : محمد الحمامصي

نعيب زماننا والعيب فينا

وما لزماننا عيبٌ سوانا

ولو نطق الزمان لنا هجانا

وليسَ الذئبُ يأكلُ لحمَ ذئبٍ

ونهجو ذا الزمان بغير ذنب

ويأكلُ بعضنا بعضاً عيانا

هذه الأبيات الشعرية المنسوبة للإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعيّ، أحد أبرز أئمّة أهل السنة والجماعة عبر التاريخ، وصاحب المذهب الشافعي في الفقه الإسلاميّ، تنطبق على حالنا اليوم تمام الانطباق، إذ نلعن ونسب ونشتم ونخون ونحرض وندس ونتآمر واعين لما نرتكب ومصرين عليه، حتى إذا أتت لعناتنا وتخويناتنا وتحريضاتنا وتآمراتنا بثمارها، واشتبك الناس يقتل بعضهم بعضا، واضطربت الأحوال وخربت البيوت والمصالح، وضاقت علينا معايشنا وسدت أمامنا الطرق، وحاصرنا الفقر والذلة والمهانة، هجونا الزمان ولعناه، متغطرسين ومستكبرين عن اتهام أنفسنا أننا السبب فيما وصلنا إليه.

نصرخ من الرشاوى ونحن من يقدمها بل نرجو المرتشي أن يتفضل ويتكرم بالحصول عليها، ونولول من انتشار الفساد ونحن السباقين إليه والحريصين على استمراره والداعين لبقائه، ونلعن ليل نهار الاضطهاد وممارسات أصحابه القذرة ونحن أول من يمارسه قولاً وفعلاً وعملاً في البيت والعمل والشارع.

نحن من يرفض التفكير، من يرفض الاستقامة، من يرفض الكرامة، من يرفض الحرية، من يسب العدالة، من يقبل الإهانة والذل، من يسعى للرضوخ والخنوع والاستسلام، من يأكل لحم أخيه ميتا عيانا، نفعل كل ذلك من أبواب وأهواء وشهوات كثيرة اخترعناها لنبرر بها جرائمنا ضد أنفسنا ونغطي بها على سوءاتنا وعوراتنا.

لا أظنني في حاجة إلى أن أدلل على كلامي هذا، فالحمد لله الأدلة حاضرة على مدار اليوم في كل ما نراه ونسمعه ونقرأه ونحسه، الشوارع تحولت إلى جراجات ومحال تجارية يؤجرها ويستأجرها البلطجية والفاسدون ليصبح مرور المارة بها يشكل عبئاً ثقيلاً، وتم تقسيم مداخل ومخارج وسلالم محطات المترو إلى بوتيكات لبيع كافة الملابس والفواكه والأواني المنزلية وغيرها، ويندس هنا وهناك باعة المخدرات والمواد الممنوعة.

المدارس الحكومية خرابات فاسدة الرسالة والبناء، والخاصة أصبحت مرتعاً لاستنزاف البيت المصري ونهبه نهباً منظماً ممنهجاً، أصحابها من رجال أعمال وتجار لا يراعون في الرسالة التعليمية إلّا ولا ذمة، يعتبرونها تجارة، ومديروها ومدرسوها وحتى سعاتها يعتبرون تلاميذها وطلابها وأولياء أمورهم "أبقارا" يحلبونهم في "الروحة والجية" كما يقولون، رشاوى وهدايا ودروس خصوصية وهلم جرا.

نفس الأمر يتم على القنوات الفضائية حيث يمول رجال أعمال وتجار بعض هذه القنوات لتبث سمومها في البيت المصري، بأخبار وتحليلات كاذبة ظاهرها الحق وباطنها الكذب والرياء والنفاق ونشر الفتن، فوضى تحكمها مصالح فاسدة ونفوس مريضة.

النخب الثقافية والفكرية ذاتها أصابها ما أصاب المجتمع، تترنح دون اتزان، تساق كرها أو استسلاما أو حاجة إلى دائرة "الاسترزاق" بالكلام وخلط الحابل بالنابل وتزيين الباطل سواء في الصحف أو على القنوات الفضائية، رؤوسها مثقلة بالهواجس، غير منتظمة خطوط وعيها، وهو الأمر الذي يشكل خطورة بالغة إذا ما أضيف إليه ما يجري في الشارع من عشوائية وفوضى.

"كله كوم" وحال النخب السياسية "كوم آخر" فقد أصابها السعار تأكل بعضها بعضا عيانا جهارا بلا أدنى خلق أو وعي أو ضمير، وكل ذلك سعيا إلى مكانة أو وضع أو منصب.

لم يعد هناك من يلبي نداء الوطن للوحدة والاستقرار ، نداء مصر، مصر التي يصرخ كل جزء فيها شمالا وجنوبا، شرقا أو غربا، "أنقذوني من فوضوية الاحتراق"، "أنقذوني من الغرق"، "أنقذوني من السقوط"، لكن لا أحد يسمع نداءها وإن سمعه تجاهله ونفض أذنيه منه.

لست سوداويا ولكن ما يجري على الأرض أرض مصر مقلق ومفزع وخطر، فقد بات لدي يقين أن الكل يسعى إلى ما يسعى إليه لشهوة في نفسه، وليأت ما يسعى إليه حتى لو هدمت مصر وأصبح عاليها سافلها، ليس مهما، المهم أن يحصل على ما يريد حتى لو أصبحت مصر خرابة، حتى لو ابتلع أهلها طوفان الدمار والفتنة.

أعرف يقيناً أن هناك شرفاء تمتلئ قلوبهم وعقولهم ودماؤهم ـ وليست حناجرهم فقط ـ بالوطنية والانتماء والحب لمصر، لكنهم لا يجدون الفرصة لكي يمدوا أيديهم لينتشلوها من وحل ما وصت إليه من تخلف وجهل، ويحولوا بينها وبين السقوط المروع.

استيقظوا وأفيقوا يا أهل مصر من غفلة الشهوة والهوى والذاتية، استيقظوا وأنقذوا بلدكم مصركم بالوعي والسؤال والتفكير الصحيح، لا تكونوا مجرد "بغبغانات" تردد دون وعي، ومجرد قطعان من الأغنام تساق بعصا العقول الفاسدة والحناجر الفارغة.

استيقظوا قبل أن يأكل بعضكم بعضا، ولا تسبوا الزمن ولا تهجوه، ساندوا وادعموا واشرعوا في بناء كل ما هو خير لبلدكم ولا تخونوا أماناتكم ولا تسمحوا لأحد أن يخونكم ويخون بلدكم 

 

المصدر: مجلة حواء- محمد الحمامصي

ساحة النقاش

hawaamagazine
مجلة حواء أعرق مجلة للمرأة والأسرة المصرية والعربية أسسها إيميل وشكرى زيدان عام 1955، وترأست تحريرها الكاتبة أمينة السعيد، ومن يوم تأسيسها تواكب المجلة قضايا وهموم المرأة والأسرة المصرية والعربية. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

19,900,646

رئيس مجلس الإدارة:

عمر أحمد سامى 


رئيسة التحرير:

سمر الدسوقي



الإشراف على الموقع : نهى عبدالعزيز