إذا غاب العقل
تحطمنا على صخرة الأهواء الشخصية
بقلم :أمل مبروك
يرى ابن خلدون أن بقاء الإنسان لا يتحقق إلا بأمرين: "القوت أو الطعام الذى يحتاجه جسمه لكى يعيش وينمو، والدفاع الذى يقيه غائلة العدوان، وكلاهما لا يتحقق إلا بقدرته على الاجتماع والتعاون، ومالم يتم هذا التعاون فلن يحصل الإنسان على قوت ولا غذاء... ولن يتمكن أيضاً من الدفاع عن نفسه... ويصيبه الهلاك على مدى حياته ويبطل نوع البشر" .. ولعل صدق هذه الرؤية يدفعنا إلى ذكر ماثبت صحته على مر الأزمنة والتاريخ وهو أن الصيغة المثالية التى تتجلى فى تطور المجتمعات والحضارات هى التى تقوم على التكامل والتعاون بين أفراد مختلفين بطبيعة الحال و بين جماعات مختلفة بالضرورة، وتلك الصيغة هى التى من أجلها بعثت الديانات، وتبلورت الفلسفات الأخلاقية، وقامت الثورات، بل من أجلها قامت ثورتنا ، لكن التعاون والتكامل ظهرا بوضوح شديد أثناء الثورة ولم يستمرا بعدها، فوجدنا أنفسنا طوال العامين الماضيين نزداد انقساما وعداء .. ولايدرى معظمنا من أين جاء الخلل !
المدنية والتعددية والثقة
إن نجاح الثورة فى إسقاط الرئيس السابق لا يعنى نهاية الأمر وكأن ذلك كان الغاية، والأصح أنه البداية، فربان السفينة لا يكفيه أن تقلع سفينته بل يجب عليه أن يراقب سيرها باستمرار من أجل تعديل الاتجاه من حين لآخر، وبنفس المنطق فإن المجتمعات تعيش لكى تنتج فكراً عملياً يطور من حياتها، ويسهم فى رقيها، كما تعيش بإدارة رشيدة قادرة على أن تتخذ من العقل وسيلة للحكم على الأشياء، وأن تتدبر بالفعل أفضل الحلول للصالح العام - لا الصالح الخاص - وإذا ما رسخت هذه المبادئ فى ضمير وعقول الأفراد فإن المجتمع يصبح قادراً على التكيف مع الصراعات والاختلافات من أجل التجدد الدائم، وخلق تواصل بين الماضى والحاضر، والحفاظ على الهوية الاجتماعية والثقافية، وبناء الذوات القادرة على الإنجاز والمتوثبة إلى الفضيلة والعمل، والحضارات الحديثة المتقدمة تشير إلى أنه لكى يتحقق هذا الهدف نحتاج إلى بعض المبادئ والأسس، مثل :
المدنية: التى تعنى احترام القانون، واحترام إرادة الآخر وأهدافه ووسائله التى تحقق هذه الأهداف طالما أنها مشروعة، واعتبار الدولة فوق الأفراد طالما أنها تحقق المصلحة العامة للجميع وتحرص على الخير العام وتحقيق حد أدنى من القيم الإنسانية والأخلاقية المستمدة من الدين، ومن التراث الفكرى الإنساني.. وكل ذلك يمكن البشر من العيش سوياً فى نظام اجتماعى مستقر.
التعددية: فالحياة متنوعة بحكم تعريفها دينياً، واجتماعياً، وثقافياً، وفكرياً، وسياسياً. وتزيد الحياة الحديثة هذا التنوع تعقيداً. ولا يمكن للمتنوع أن يظل على خصوصيته وإبداعه إذا ما كان مفككاً غير قادر على أن يحدث تجميعا للناس، أو إذا ما برز منه فريق يريد أن يصنع تجمعه الخاص على حساب الآخرين، أو إذا ما أنكر البعض على البعض الآخر حقوقاً هى لهم بحكم الاجتماع والإنسانية.
الثقة: وهى الخيط المشترك الذى يؤمن كل طرف فيه بأن الآخرين يعيشون من أجله لا من أجل أنفسهم فحسب.
هكذا تستمر الحياة
إذا كنا نسعى جميعًا إلى تأسيس مجتمع مدنى ديمقراطى، تكون فيه قيمة المواطنة هى القيمة الأسمى والأعلى, ويكون فيه النظام العام القائم على الثقة والتعددية والانتماء إلى الدولة الوطنية هو الغاية المنشودة. فإن الطريق إلى ذلك قد يكون صعبا، ولكن ثمة درسا حضاريا هاما لابد أن نعيه ولا نحيد عنه .. مفاده أن العقل إذا غاب عن المجتمع فإنه يحطم نفسه على صخرة الانفعال والأهواء الشخصية، وإذا كان الشعب المصرى فى ثورته قد كشف عن عقلانية لا نظير لها، فإننا فى أمس الحاجة إلى أن تصبح هذه العقلانية صفة مميزة وسائدة لأفعالنا, جماهير ونخبة، فبالعقل نفكر, ونتصل بالآخرين, ونبنى حضارة, ونتغلب على مشكلاتنا, ونصحح مسارنا, وبالعقل تستمر الحياة فى تقدم ورقى
ساحة النقاش