احفظ الله يحفظك

كتبت :ايمان حسن الحفناوي

مرة أخرى يثبت الشعب المصري أنه لا يمكنك أن تضع له سيناريو وتجلس مطمئناً لأنه سينفذه كما تمت كتابته، فمن ملاحظاتي لردود الفعل المصرية على مر العصور ، أجد أن شعب مصر معجزة في حد ذاته، إذ أنه يأخذ منك السيناريو ويستذكره جيدا، ثم تفاجأ باختلاف قد يكون جذرياً تماماً عندما يبدأ التنفيذ.

كثيرون قالوا عن المصري إن ثقافته السياسية ضئيلة، وإن نسبة الأمية عنده هي أصفاده الحقيقية التي تمنعه عن الفهم العميق للعبة السياسة وإدراك دهاليزها، لذلك يرسمون له ويخططون لأنه في نظرهم غير قادر لا على التخطيط، ولا النفاذ بعمق لتشابك الأحداث من حوله.. إنهم لا يقدّرون هذا الشعب حق قدره ولا يعرفون أن تاريخه الضارب بقوة في بطن التاريخ هو معلمه وملهمه، فإذا لم يكن هناك تعليم عالٍ ودراسة متخصصة ، فالسليقة هي الموجه الأكبر.. الأعجب أن مصر نفسها ملهمة، بل وتشكل البشر وحتى المعتقدات بلونها هي، فهذا مثلا صلاح الدين الأيوبي كان عالماً بالهندسة والرياضيات وعلوم الحساب والشريعة الإسلامية، لكنه من أرض الكنانة انطلق وصار الفارس الذي أنقذ الأمة من الهلاك، وهذا يوسف الصديق ، جاء إلى مصر فتشرب بها حتى أنه وهو الذي لم يدرس الاقتصاد في جامعات السوربون أصبح قائماً على خزائن مصر ، وتمكن بمهارته وحنكته أن يخرجها من أزمة كادت تفتك بها، إلي مصر جاءت المسيحية فعرفنا الرهبنة، وإليها جاء الإسلام فعرفنا التصوف، هذه هي مصر قيمة بحد ذاتها، بوتقة استثنائية ووطن عبقري .. لذلك كان من الخطأ أن يتم الحكم على شعب مصر بأنه لن يفهم معنى الديمقراطية، فالديمقراطية ليست كتابا مقررا نستذكره ونذهب آخر العام لنؤدي امتحاننا فيه، الديمقراطية طريق طويل عاشه شعب مصر منذ أيام الفراعنة، منذ كانت مصر تعيش في سلام وتفاعل إيجابي رغم تعدد آلهتها، منذ جاء اخناتون ليقضي على تعدد الآلهة فيثور الشعب عليه ويرفض الإقصاء للآخرين وتنتهي مهمة اخناتون بإرادة الشعب، مصر تعرف الديمقراطية، فهي التي ثار فيها الأقباط لأن الدولة الرومانية أرادت فرض دين معين عليهم، ولم تهدأ الأمور إلا مع الفتح الإسلامي الذي جعل شعار احترام الأديان نبراساً له، ولولا احترام الفتح الإسلامي للديانتين المسيحية واليهودية الموجودتين وقتها في مصر ما هدأت الأمور ولا استقرت.. أليست كل هذه الصور تؤكد أن شعب مصر يعرف ما هي الديمقراطية ويعرف أيضا كيف يحارب من أجلها؟ إنه يقبل التعددية ويعرف كيف يتواءم معها ويفهم تقبل الآخر، هو الشعب الذي وفدت إليه الشعوب فاحتواها وتعايش معها بسلام وحب، إن هذا الشعب العظيم قد يسكت علي من يحاول العبث بحريته، قد يصبر على من يفكر بتقليم أظافره، وقد يبدو ضعيفاً مع من يقهره، لكنه يفعل كل ذلك وهو واقف، فإذا بدأ ينحني ظهرت مخالبه واستفاق من غفلته.

وما حدث في الفترة الماضية منذ اندلاع ثورة يناير المجيدة ، إذا تدارسناه بعمق وأناة سيبهرنا هذا الشعب، وسنقبل رأسه حباً واحتراماً ، فقد أدار الصراع بشكل عجيب، وقلب موازين كثيرة، وأدرك أنه يحمل وعياً عميقاً ، وفكراً عجيباً .. وقد تابعت معكم علي مدى عدة مقالات كيف أن شعب مصر أربك العالم بخروجه عن النص في مشاهد عديدة، وكيف أن المرحلة التحضيرية، والتي كنا نعيشها لحين تم انتخاب الرئيس احتوت الكثير جداً من المفاجآت والتي كان يتابعها العالم ويحبس أنفاسه وكأنه يلاحق عملاً من أعمال الأكشن الممتعة أو يتابع مباراة حامية أطرافها كلهم أذكياء.. هذا هو الشعب المصري شعب المفاجآت الذي يضحكك وهو يهزك من كتفيك ويبكيك في أروع لحظات احتفالك، وفي الحالتين لا تملك إلا أن تصفق له وترفع قبعتك حتي لو اختلفت معه.. عندما بدأت الجولة الأولي لانتخابات الرئاسة،تصور معظم المراقبين أن الفوز إما للسيد عمرو موسى أو الدكتور أبو الفتوح، وكانا بالفعل اختيارين فوق الممتاز خاصة في هذه الفترة التي تعقب إعلان النتيجة وهي الفترة الانتقالية، لأن ما كنا نعيش فيه من قبل هو الفترة التحضيرية.. ودخل السباق 13 شخصية لكل منها من يؤيده، لتخرج علينا النتائج بالإعادة بين الفريق أحمد شفيق والدكتور محمد مرسي، كثيرون صدمتهم النتيجة، لكنها متوقعة لمن يفهم شعب مصر بكل فئاته وطوائفه وأيضا جماعات الضغط فيه وعليه... وبدأ الارتباك في صفوف الناخبين لاسيما الذين رفضوا من البداية إعطاء أصواتهم لأي من هذين المرشحين.. أكثر المرتبكين كانوا من أدلوا بأصواتهم للسيد حمدين صباحي وهي كتلة لا يستهان بها، وللسيد عمرو موسي ثم للدكتور أبو الفتوح.. معظم كتلة صباحي قرروا المقاطعة، وانقسمت كتلة موسى بين غاضب يفكر في إبطال صوته وآخر قرر انتخاب شفيق،أما كتلة أبو الفتوح فمعظمها قرر مباشرة إعطاء د.محمد مرسي والآخر قرر المقاطعة... وبدأت فكرة المقاطعة تخفت مع الوقت وتحولت إلي ضرورة الذهاب لإبطال الأصوات، الذين رفضوا تحويل أصواتهم للفريق شفيق كانت مبرراتهم أنه ينتمي للنظام القديم ، وأنه يمثل الحكم العسكري الذي يريدون الخروج من عباءته، والذين قرروا ألا يتحولوا لمرسي كانت مبرراتهم أنهم لم يقوموا بالثورة ليعطوا البلد للإخوان فهم يريدون بلدا يمثل الجميع، والذين قرروا المقاطعة قالوا إن شفيق لا يمثلهم فكيف يخلعونه كرئيس وزراء ثم يأتون به رئيسا،هم أيضا لا يريدون مرسي لأن مجلسي الشعب والشورى صارا مع الإخوان ثم الوزارة لابد ذاهبة للإخوان أيضا، ولا يجب أن تذهب الرئاسة هي الأخرى حيث سيختل ميزان القوى.. إلي هذا الحد كان الشعب يدرك بحسه المرهف ماذا يعني ميزان القوى.. لذلك بعد فترة بدأ من كان ضد شفيق يتحول لصفه ويقرر انتخابه، لماذا؟ لتتعادل موازين القوى، فالإخوان لهم التشريع وقد تكون لهم الوزارة، وتأتي الرئاسة من غيرهم... لذلك وعندما صدر الحكم بحل مجلس الشعب تغيرت البوصلة تماما، وهذا ما لمسته بنفسي وسجلته عندي، تحول المقياس 180 درجة عند كثيرين جدا ، لقد شعر الشعب بفطرته النقية أن ميزان القوي أصبح يعاني مرة أخرى، ومن كان ضد د.مرسي صار يفكر جدياً في اختياره، وأنا ضد من يقول إن الناس اختارت د.مرسي كرهاً في الفريق شفيق، شعبنا أعمق بكثير من هذه الممارسات الصبيانية، فاختياره إنما جاء ليحقق التوازن لأنه عانى لفترات طويلة من اعتقال السلطة في زمرة بعينها وأراد أن ينجو بنفسه من هذا الاختيار الذي أثبت فشله، إنه يريد تعددا، لأنه كمصري لا يحيا بشكل صحي إلا في ظل هذا التعدد الذي يفرز أفضل ما في الجميع لأن كل فصيل سيكون مراقباً على الآخر وسيعطي أفضل ما عنده في ظل تنافس لصالح الجميع... لقد توهم من تصور أن الشعب المصري هو نفسه من كان قبل 25 يناير، فالمصري استفاق من غيبوبته وخرج من قمقمه، ولن يستطيع أحد أيا من كان أن يعيده إلي الهوان ، وقع في الوهم أيضا من يتصور أو يصيبه قلق أن الإخوان سوف يسيطرون على الشعب ويهمشونه، وأكثر المتوهمين من يتخيل أن أنصار النظام القديم سوف يقوضون كفاح المصري.. لقد تغيرت أصول اللعبة ولابد أن نعترف، وأن نسعد بهذا الاعتراف لأنه يدل أننا ننتمي إلي بلد عرف طريقه، لكننا مع هذا الاعتراف لابد أن نفتح كشف حساب ونحصي أخطاءنا التي وقعنا فيها في الفترة الماضية، وأن نعطي لكل شيء حقه،فكما نمجد شهداءنا الذين سالت دماؤهم الزكية تروي لنا طريق النور، فلابد أن نشكر من قاموا على حماية مكاسبنا حتى وإن شاب تصرفاتهم بعض الخطأ فجل من لا يسهو وكل بني آدم خطاء، القوات المسلحة كانت تحمي طريق الديمقراطية ولا ننكر كيف أمنت لجان الانتخابات، القضاء وقف بجوار الشرعية، الشرطة فيها كثيرون شرفاء، 6أبريل الذين قيل فيهم ما قيل دافعوا عن حق المصري في الاختيار، شباب الالتراس الذين قال عنهم البعض إنهم ماتوا على لهو في مباراة بورسعيد كانوا يفرشون شبابهم بساطاً من أجل مصر لتخطو عليه أولى خطوات الديمقراطية.. كل مصري حاول بشكل أو بآخر أن يساهم، ولنا الظاهر ويتولى الله السرائر، وعلينا أن ننبذ كل خلاف ونبدأ من جديد لا أقول يداً واحدة فاليد الواحدة تعني الإعاقة، لكن أقول كل أيدينا معا ويد الله فوق الجميع، تحية لشعب مصر الرائع وتحية لرئيسها المنتخب وتحية لكل من ساهم ولو بحرف صغير في طريق الديمقراطية، ولننبذ عنا المخاوف وننفض التخوين، فلو استطعنا وضع دستور قوي وعملنا على تطبيق القوانين السليمة بحيث تشمل القوي والضعيف لن يخيفنا أحد ولن نضيع، وقد قال سيدنا علي كرم الله وجهه قد تدوم الدولة مع الكفر لكنها لا تدوم مع الظلم 

 

آخر المشوار

بسم الله الرحمن الرحيم "قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير" صدق الله العظيم.. أقرأ هذه الآية وأتعجب لقدرة الله ، ومن لم يتعلم مما يحدث أمامه في هذه الفترة فلن يتعلم أبدا،ليتنا نفهم أننا مجرد أقلام يكتب بنا الخالق في صفحة القدر ما يشاء، ليتنا نفهم أن أرزاقنا ليست بيد أحد إلا خالقنا ، ليتنا نتأكد أن الأيام دول.. وليتنا نقرأ هذا الحديث الشريف ونبكي ، ابكوا معي حتى تغتسل نفوسكم من الأعماق فقد يسامحنا المولى عز وجل علي ما فرطنا فيه.

احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سأَلت فاسأَل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأُمة لو اجتمعت على أَن ينفعـوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف.

المصدر: مجلة حواء- ايمان حسن الحفناوي

ساحة النقاش

hawaamagazine
مجلة حواء أعرق مجلة للمرأة والأسرة المصرية والعربية أسسها إيميل وشكرى زيدان عام 1955، وترأست تحريرها الكاتبة أمينة السعيد، ومن يوم تأسيسها تواكب المجلة قضايا وهموم المرأة والأسرة المصرية والعربية. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

19,689,253

رئيس مجلس الإدارة:

عمر أحمد سامى 


رئيسة التحرير:

سمر الدسوقي



الإشراف على الموقع : نهى عبدالعزيز