فتح حمدى سلام عينيه صباحا حين سمع صوت أمه يناديه..كان قد أمضى ليلة عانى فيها من الأرق والقلق..فاليوم هو الموعد المحدد للمقابلة الشخصية والامتحان للمتقدمين لوظيفة مهندس فى تعمير الصحراء..

وحين اتجه إلى حجرة الطعام وجد أمه تقول لرضا ابن أخته الذى لم يتخط عامه الثانى:

<!--هل تريد أن تفطر مع خالك يا رضا؟

حمل الصغير وقبله..فقالت:

<!--اتركه لى وتناول إفطارك..

بعد الإفطار راحت تداعب الصغير وتوقفه وتسانده وهو يحاول المشى واقفا..

كانت تحيطه بذراعيها وتهتف:

<!--تاتا..تاتا..خطى العتبة..!

و خطى رضا..ومشى حتى آخر الحجرة دون أن يقع..!

هتف سعيدا: برافو رضا..برافو..

قالت أمه باسمه:

يا بنى..أنا حين أنظر إلى ابن أختك كأنى أعود وأراك طفلا أعلمه المشى بقدمين ثابتين ..!!

قبل يدها وقال: ادعى لى يا أمى..

اتجهت إلى القبلة..صلت وراحت تدعو ودموعها على خديها..

دمعت عيناه..ومضى..

فى قاعة الانتظار جلس مع زملائه من الشباب المتقدمين للامتحان لوظيفة مهندس فى تعمير الصحراء ومضى وقت حتى أشارت ساعة الحائط إلى العاشرة صباحا فأغلق معاون الخدمة الكهل باب القاعة وهو يقول:

<!--أوامر الإدارة أن أغلق الباب فى تمام العاشرة..الحمد لله لم يتخلف أحد..ربنا يوفقكم يا أولادى.

       همهم الشباب بشكر الرجل رد عليهم وحياهم ومضى إلى الداخل ثم عاد يحمل صينية عليها أكواب مياه..وضعها على طاولة صغيرة أمامهم وهو يقول بصوت ودود:

<!--إن شاء الله كلكم مقبولين.

أثناء ذلك راح حمدى يفكر..وتساءل:

ترى فى أى أشياء سيسألونه..؟ إنه ليس خائفا من الإخفاق فى الإجابة لكن خشيته أن تتدخل الواسطة فيحصل على الوظائف من لا يستحقونها..توتر قليلا لكن الطمأنينة عادت إلى نفسه وهو يستعيد ما ورد فى الإعلان عن الوظيفة من شروط تنفر من يعتمدون على الواسطة فمواقع العمل فى الصحراء والأماكن البعيدة التى لم تعمر فى سيناء، وقال لنفسه:

تلك الوظيفة  ليست مطمع هؤلاء الناس لكنها مناسبة لك ولأمثالك..إذن فأنت لها يا فتى..ثلاث سنوات منذ تخرجك فى الجامعة بلا عمل تكفى. وتنهد وهو يقول:

<!--لكنى لست نادما على يوم واحد مضى فقد استثمرت الوقت فى الإطلاع على المراجع العلمية ودراسة أكثر من "كورس" اجتزتها بنجاح..

ليسألونى ما شاءوا سأعبر بنجاح إن شاء الله كما عبر أبى قناة السويس مع زملائه فى معركة التحرير واخترقوا ما سماه العدو الساتر المنيع بفضل التدريب الشاق الذى قاموا به.

و عاد حمدى للإعلان وأعاد قراءته فاستبشر خيرا وهو يقول:

    كأنه أعد من أجلى، كم تمنيت أن نعمر الصحراء كما يقولون، كم تمنيت أن نخترق فيافى الوطن نقيم فيها المزارع، والمنازل، والمدارس، والحدائق، والمستشفيات..

كم تمنيت أن نفتح باب المستقبل لدنيا جديدة.

وداعبه حلمه المتوارى لبيت وزوجة وأطفال.. لكنه فجأة سمع معاون الخدمة ينادى:

<!--المهندس حمدى سلام..المهندس إبراهيم خليل..المهندس سمير حسن..

دخلوا..جلسوا أمام اللجنة..سأله الرئيس:

<!--أستاذ حمدى .. أرى فى أوراقك دراسات قمت بها "وكورسات" اجتزتها بنجاح

طيب.. حدثنا عن رؤيتك لمواقع العمل بالصحراء.. وعن.. وعن.. إلخ.

وأجاب حمدى بثقة كبيرة، ورأى فى عين الرجل وعيون أعضاء اللجنة رضا.. واقتناعا وقبولا لما يقول وأحس حمدى سلام بإن عيونهم تفصح عن تقدير له لا تشوبه شائبة.. استقر فى نفسه أنه ناجح..ناجح.. وأنه قد آن الأوان لانفتاح الباب المغلق أمامه منذ تخرجه فى الجامعة.. وسمعهم يتحدثون عن حلمه كأنه حلمهم أيضا.. تعمير صحراء الوطن حتى تزدهى بالخضرة والنماء، وتفتح أبواب الرزق الوفير لآلاف العمال الباحثين عن عمل.

وتكلم مع الرجل متدفقا بعلم غزير لم يهمل تحصيله فى يوم من الأيام.. و خيل إليه وهو يختم إجابته بثقة بالغة أنه يرى فى عيون الرئيس وأعضاء اللجنة الرضا الكامل عنه..

لكنه فجأة سمع رنين الهاتف فرفع الرئيس سماعته.. ورد هامسا..

لم يسمع حمدى ما قاله إلا أن وجه الرجل تغير فثمة شىء مسخ ملامحه..

وكلطمة موجعة صفعت وجه حمدى، جاءته كلمات الرجل:

<!--أستاذ حمدى.. شكرا.. وسوف نتصل بك فيما بعد.!!

نظر حمدى سلام إلى أعضاء اللجنة وهو يحاول أن يتغلب على إعياء أصابه فجأة.. وقام من أمامهم يجر قدميه، وفى هذه اللحظة الفارقة لمح أحد أعضاء اللجنة يهمس فى أذن الرئيس وقبل أن يجتاز حمدى الباب مغادرا المكان سمع الرجل يهتف:

<!--أستاذ حمدى.. انتظر قليلا.!

عاد متعثرا.. فقال له الرئيس وهو يبتسم:

<!--ما رأيك يا باشمهندس أن تشغل وظيفة مهندس فى موقع لم نعلن عنه بعد.! إنه فى مكان بعيد جدا لن تستطيع أن تعود منه إلى بيت الأسرة قبل ستة أشهر من بدء العمل فيه.. فهو يحتاج إلى تفرغ كامل وإلى جهد شاق غير عادٍ.!؟

نظر حمدى إلى الرجل.. حملق فى وجهه.. تبدت ملامحه أبوية طيبة.. وخيل إليه أنه يرى صورة أمه فى عينيه تبتسم وتهتف به:

<!-- حبيبى.. خطى العتبة.!!

و قال حمدى بثقة كبيرة:

<!--موافق يا سيدى.!!

* * *

 

 

 

المصدر: مجلة حواء محمود قتاية
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 800 مشاهدة
نشرت فى 13 مارس 2014 بواسطة hawaamagazine

ساحة النقاش

hawaamagazine
مجلة حواء أعرق مجلة للمرأة والأسرة المصرية والعربية أسسها إيميل وشكرى زيدان عام 1955، وترأست تحريرها الكاتبة أمينة السعيد، ومن يوم تأسيسها تواكب المجلة قضايا وهموم المرأة والأسرة المصرية والعربية. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

22,807,775

رئيس مجلس الإدارة:

عمر أحمد سامى 


رئيسة التحرير:

سمر الدسوقي



الإشراف على الموقع : نهى عبدالعزيز