شهرزاد بنت الوزير الذكية هي أروع مثل على ما يجب أن يكون عليه موقف المرأة المثقفة فى كل عصر، فلكى تنقذ بنات عصرها من بطش الملك شهريار الذى خانته زوجته مع عبد أسود، تطوعت فى شجاعة لتقدم نفسها إلى الملك وقد عزمت على علاجه من صدمته. ويرفض أبوها الوزير ويحاول أن يبعدها عن أنظار الملك، ولكنها تتوسل إليه أن يدعها تواجه الملك المستبد، لقد دفعها الإحساس بالمسئولية تجاه بنات جنسها إلى التضحية بنفسها، وكان من الممكن أن تلقى مصير سابقاتها، وأن يتم قطع رقبتها فجر اليوم التالى لزفافها للملك شهريار، ولكن عقلها الحكيم وثقافتها كانا السلاح الذي حقق لها النصر، ولم يكن ذلك ممكنا بدون امتلاكها قدرا كبيرا من الخيال والموهبة على حبك الأحداث وإثارة شغف الملك إلى الاستماع للمزيد من حكاياتها الشيقة، والفضول ميل موجود لدى كل إنسان، إن رفض شهرزاد لقسوة شهريار غير المبررة على بنات المملكة لم يقف عند حد العصيان والتمرد، وإنما تخطاهما إلى التحرك والتصرف فأقدمت على تضحيتها وواجهت الأسد فى عرينه ثم ألقت إليه بالطعم، واستمرت ألف ليلة وليلة تعاود المحاولة مع الملك الثائر المجروح حتى روضتة تماما وحققت هدفها الأساسى وهو إنقاذ بنات جنسها من الفناء، الإنجاز الحقيقى لشهرزاد أنها استطاعت أن تغير رؤية الملك للحياة، وأن تعمق نظرتة للوجود، لم تفعل شهرزاد ذلك بالبكائيات ولا بالعرائض المطولة ولا بالمنولوج الممل أو بالتفلسف، ولكنها خرجت من قوقعة الذات، فشملت نظرتها المجتمع كله وبلاد عديدة، وسافرت بخيالها إلى "أرض الأحلام" و"جزر واق الواق" و"بلاد الجن"، كانت تروي للملك كل ليلة حكاية ولا تكملها إلا في الليلة التالية، وكان الملك يتشوق لمعرفة نهاية القصة ولا يقتلها مثل سابقاتها حتى يعرف نهاية القصة.
صحبت شهرزاد ملكها في رحلات إلى المحيطات والبحار المجهولة، وإلى باطن الأرض وإلى ممالك لم يسمع عنها أحد، ومن يقرأ حكاياتها يجدها تتأمل الكون كله وهذا ما أعطى لألف ليلة وليلة الخلود، وأصبحت شخصيات مثل "علاء الدين وياسمين" و"السندباد" و"علي الزيبق" و"علي بابا والأربعين حرامي"، وغيرها تعيش فى ذاكرتنا وتثير شغف الكثير من أطفال العالم إلى يومنا هذا، وما تفعله الكاتبات ما هو إلا صورة من محاولة شهرزاد لإنقاذ بنات جنسها، فمادام بيننا أمثال شهريار، ومادامت أزمة الفريسة لم تُحل، ولم يتحرر المجتمع الشرقي من عقدة الصياد ولم يتخلص من رغبته المستمرة في التربص بالمرأة وتوجيه الاتهامات إليها والنظر إليها كمخلوق ناقص وضيع، ستظل شهرزاد موجودة دائما في أدبنا العربي وستظل الأقلام النسائية تخط في كل ليلة حكايات الإنسان الذي يرفض القيد ويتوق لتحرير روحه وجسده من قبضة التخلف والتسلط.
لم تعد شهرزاد ومثيلاتها يكتبن الأدب النسائي الذي يغرق في دوامة الذات ويظل يحوم حول قضية حرية المرأة، والصراخ من وراء القضبان، بل أصبحن ينطلقن إلى آفاق أرحب، ويتخطين حدود الزمان والمكان ويعبرن بقصصهن عن كل إنسان، فإذا كان الأدب النسائي يعبر عن التمرد والسخط فإن حكايات شهر زاد تتخطاه إلى الثورة الحقيقية التى هدفها تحرير الإنسان وسلاحها النظرة الموضوعية الشاملة للحياة كلها.
ساحة النقاش