<!--<!--<!--[if gte mso 10]> <style> /* Style Definitions */ table.MsoNormalTable {mso-style-name:"Table Normal"; mso-tstyle-rowband-size:0; mso-tstyle-colband-size:0; mso-style-noshow:yes; mso-style-priority:99; mso-style-qformat:yes; mso-style-parent:""; mso-padding-alt:0cm 5.4pt 0cm 5.4pt; mso-para-margin:0cm; mso-para-margin-bottom:.0001pt; mso-pagination:widow-orphan; font-size:11.0pt; font-family:"Calibri","sans-serif"; mso-ascii-font-family:Calibri; mso-ascii-theme-font:minor-latin; mso-fareast-font-family:"Times New Roman"; mso-fareast-theme-font:minor-fareast; mso-hansi-font-family:Calibri; mso-hansi-theme-font:minor-latin; mso-bidi-font-family:Arial; mso-bidi-theme-font:minor-bidi;} </style> <![endif]-->
ذكريات مدرسية للسيدة أمينةالسعيد
رأيته أول مرة في بداية عهدي بالمدرسة الثانوية، ولم يكن قد بقى على إمتحان آخر العام سوى فترة قصيرة، ولكن وزارة المعارف شاءت أن تقلقنا في هذا الوقت الحرج، فأصدرت أمرا بنقل مدرس الجغرافيا إلى مدينة الإسكندرية وتعيين آخر في مكانه.
ونزل علينا الخبر نزول الصاعقة، فقد عز علينا أن نحرم من مدرسنا القديم العزيز، الذي كنا نتلقى منه العلم بقدر محدود ونضيع بقية الوقت معه في حيل والأعيب، نستعد لها تمام الإستعداد مقدما، ثم نفاجئه بها في مهارة، فيختلط عليه الأمر اختلاطا يجعل من حصته قصة تتحدث بها المدرسة طوال الأسبوع.
وكانت زميلاتي يوكلن إلي مهمة تدبير الحيل وتنظيم الألاعيب، لما يعهدنه في من شقاوة بالغة أميل اليوم إلى اعتبارها حيوية جارفة، لأنها كانت تنطوي على الرغبة في الحركة، تخلو من أبسط معاني الخبث والشر.
وكنت- والحق يقال- أتفنن في أداء هذه المهمة، وأنجح بسهولة في إشاعة الفوضى خلال درس الجغرافيا، ثم أبكي عند العقاب بدمع هتون يفعل فعله في قلب مدرسنا الطيب السمح فيغفر لي بعد أن ينال مني وعدا- لا يتحقق أبدا- بالإقلاع عن العبث والطيش!.
كان شيخا في الخمسين من عمره أو ما حولها قصير القامة، نحيف الجسم كأنه هيكل عظمي ولكنه كان طيب القلب، رضي الخلق، لا يلجأ معنا إلى القسوة مهما فعلنا، ويميل دائما إلى غفران أخطائنا بعد صدورها بدقائق معدودات، وحتى في غضبه لم يكن خشنا في لفظه أو معاملته، ولا أذكر أنه أنبنا مرة بما يترك أثرا في نفوسنا.
وفجأة نقل هذا الرجل العزيز، وعين آخر في مكانه، فحزنا لفراقه، وبكينا عند وداعه فبكى معنا.
وجاء المدرس الجديد، وسمعنا خبر وصوله ذات يوم، فتجمعنا في الحديقة لنراه، وعندما دق الجرس بإنتها فسحة الظهر، وآذن الوقت بالعودة إلى الدرس، رأيناه يقبل علينا مع المدرسين الآخرين وكأنه ليس منهم، فأخذنا نفرط الدهشة والعجب... كان رجلا غير الذي أعتدنا أن نراهم في مدارس البنات، ناضج الرجولة لا يزيد عمره عن الثامنة والثلاثين، طويل القامة عريض الكتفين مثل تماثيل آلهة الإغريق... وشعره أسود غزير، وبشرته بيضاء ناصعة، وعيناه واسعتان براقتان، أما تقاطيعه فأوضح صورة لوسامة الرجولة...
وكنا فتيات صغيرات لا تزيد سن الواحدة منا عن أربعة عشر عاما، وللشكل تأثير نفسي عجيب في هذه المرحلة من العمر، وكان هذا الرجل يتمتع بكل المؤهلات التي يستطيع بها أن يسيطر علينا، ويستولى على قلوبنا، ويوجهنا حسبما يشاء... فأمتلأت صدورنا بالرضا، وشعرنا كأن الوزارة قد عوضتنا خير العوض عن مدرسنا الطيب القديم، بهذا الرجل الذي تسر العين لمرآه....
ودخل علينا مدرسنا الجديد أول حصة له معنا، فرأن علينا صمت شامل، وتركزت نظراتنا في وجهه مطمئنة، ولكنه تأملنا بنظرة باردة بعثت الرجفة في أوصالنا: فقد لمسنا منها إستهانة بنا، واستصغارا لشأننا، مع لون من الضيق بوجوده مع مخلوقات مثلنا.. ولابما لم يكن شعوره كذلك، ولكننا ترجمنا نظراته بهذا المعنى..
وكانت هذه أول صدمة تلقيناها من مدرسنا الجديد، ولكنها لم تكن آخر صدمة، فكل درس أعطاه لنا أتانا بجديد من جوانب صرامته، التي تتخطى حدود الصرامة المقبولة، وتتغلغل في النفس، لتترك فيها أثرا عميقا من العسير أن يعالج..
وكان أول ما نفرنا منه غضب سريع تشتعل نيرانه لأبسط هفوه منا، ثم تتأجج تأججا يطلق عقال لسانه بأقسى أنواع الكلام وأمره، فنسمع منه ما لم نكن نسمعه من غيره، وما لا نحب أن نسمعه من إنسان كان من كان.
ولم يكن التأنيب جديدا علينا، فحياة التلميذ أو التلميذة عامرة بالمراجعة والمؤاخذة والعقوبات على اختلافها، ولكن تأنيبه كان لونا آخر غير الذي مضى بنا منذ بداية حياتنا المدرسية إلى ذلك اليوم. وكنا نحس كأن كلامه سهام تخترق صدورنا، وتتغلغل في قلوبنا، حتى تصل منها إلى كرامتنا، فتحطمها تحطيما.
وليته كان في غضبه هذا يثور أو يصرخ أو يرغي أو يزيد، حتى نجد له عذرا فيما بعد، ونبرر قسوته بحالة عصبية أخرجته عن طوره..
ولكنه لم يكن يفعل شيئا من هذا، بل يحتفظ بهدوئه الظاهري كاملا، ولا يبدو غضبه إلا في لمعة خاطفة نراها في عينيه، تبدأ بعدها مرحلة التأنيب التي يفتن في اختيار كلامها، وينتقي ألفاظه بمنتهى الدقة والعناية.. وكان يطعننا فيما لا يجوز أن نطعن فيه من عيوب في الشكل لم يكن لنا يدفيها: فإذا كانت أحدانا دميمة، عايرها بقبح وجهها، وأسرف في وصف تقاطيعها، وسألها أن تستشير المرآه في أمرها.. وإذا كانت عرجاء، ذكرها بعاهتها، ونصحها بأن تداريها بحسن الأخلاق وطيب السيرة.. وإذا كانت سمينة، شبهها بالجاموسة الكسول، التي تعيش لتأكل شأن الحيوانات كلها..
وأشهد إنه لم يكن يغضب بهذه الصورة إلا بين حين وحين، ولكن أثر غضبته في كبريائنا يبقى حيا على مضي الوقت، خصوصا إنه كان يذكر الإساءة أياما بعد وقوعها، ويظل يتحدث فيها حصة بعد حصة، في إلحاح مرير، حتى لا تكاد المذنبة منا أن تفقد عقلها..
ومضت السنة الأولى، وتلتها السنة الثانية، ونحن نزيد بعدا عن مدرس الجغرافيا، حتى تقطعت أواصرا الصلات بيننا وبينه، وأصبحت علاقتنا به آلية لا أثر فيها للاحساس أو العاطفة وذات يوم استيقظنا من نومنا في الوقت المناسب، وكان من عادتنا أن نتصفح الجرائد قبل توجهنا إلى المدرسة، وقد فعلنا هذا في ذلك الصباح، فطالعنا خبر رهيب كتب عنوانه بالبنط الأسود الكبير.. وقد جاء في الخبر أن مدرسنا اختلف مع زوجته في الليلة السابقة على أمر من أمور البيت، وكان أبنهما الرضيع مريضا، ومع ذلك ظل يلح في تأنيبها، حتى انتصف الليل.. وعندئذ جن جنون الزوجة، وفقدت السيطرة على نفسها، فتوجهت إلى غرفة الحمام، وأقفلت الباب من الداخل، ثم أشعلت النيران في جسدها.... وجاء في الخبر أيضا إنه عندما تنبه زوجها إلى ما حدث، حطم باب الحمام بكتفيه القوية، وجعل يطفيء النيران بيديه، حتى أصابتهما حروق شديدة، ولكنه لم يستطع أن يمنع القضاء رغم جهوده، فلفظت المنتحرة أنفاسها قبل نقلها إلى المستشفى.
وكانت قصة مؤسفة نزل وقعها علينا رهيبا بفعل شعورنا السابق نحو بطلها، فذهبنا إلى المدرسة والدموع تندفق غزيرة من عيوننا، كأننا فقدنا بموت الزوجة أعزعزيزة لنا، وانتشر الخبر بين البنات في ثوان معدوات، فعرفت به من لم تكن قد قرأته في جريدة الصباح، واستحالت نفوسنا إلى ما يشبه أتونا تتأجج فيه نيران الغيظ والغضب...
وأنطلق بنا خيال الصبا الخصيب، فتصورنا مدى الشقاء الذي استبد بالزوجة، حتى أنساها رضيعها المريض، ودفعها إلى التخلص من حياتها بهذه الطريقة البشعة، وشطح بنا سوء ظننا بمدرسنا، فزدنا على القصة تفاصيل من صنع أذهانا وتقولنا على لسانه أقوالا من بنات أفكارنا، ورسمنا لليلة المشهودة صورة تفوق أشهر مأسي التاريخ..
<!--<!--<!--[if gte mso 10]> <style> /* Style Definitions */ table.MsoNormalTable {mso-style-name:"Table Normal"; mso-tstyle-rowband-size:0; mso-tstyle-colband-size:0; mso-style-noshow:yes; mso-style-priority:99; mso-style-qformat:yes; mso-style-parent:""; mso-padding-alt:0cm 5.4pt 0cm 5.4pt; mso-para-margin:0cm; mso-para-margin-bottom:.0001pt; mso-pagination:widow-orphan; font-size:11.0pt; font-family:"Calibri","sans-serif"; mso-ascii-font-family:Calibri; mso-ascii-theme-font:minor-latin; mso-fareast-font-family:"Times New Roman"; mso-fareast-theme-font:minor-fareast; mso-hansi-font-family:Calibri; mso-hansi-theme-font:minor-latin; mso-bidi-font-family:Arial; mso-bidi-theme-font:minor-bidi;} </style> <![endif]-->
وكانت ثورة شاملة، لم تخرج عن اجماعها فتاة واحدة، فقد إنحزانا جميعا إلى جانب المنتحرة بقلوبنا وعقولنا وشعورنا.. وصدقنا خيالنا في كل ما شطح إليه، ولم نحاول أن نتغلغل فيما وراء الخبر، ونحكم عقولنا المجردة عن التحيز والتحزب...ولا غرابة فقد كنا صغيرات طائشات|، لا خبرة لنا بأسرار النفس، ولا دراية بتصاريف القدر وأحكام الحياة!
ولو جاء مدرسنا إلينا في ذلك اليوم، لقتلناه، ولكنه لم يأت من حسن الحظ، واتصلت غيبته أسابيع، قبل لنا فيها إنه يعالج جروح ذراعيه، وقيل إنه يعاني انهيارا عصبيا آثر الصدمة النفسية التي أصابته لما حدث.. وفعلت الأيام فعلها، فبدأت وطأة ثورتنا تخف بالتدريج، حتى أنطفأت جذوتها، وقد خلفت في نفوسنا مرارة باردة، لعلها أقسى في قعلها من فورات الغضب في عنفوانها.
وإنقضى أربعون يوما، ثم شاع في المدرسة ذات صباح أن مدرس الجغرافيا قد عاد إلى عمله، وأقسم بنات منا على أنهن رأينه يدخل غرفة المدرسين. ومرة أخرى دبت الحيوية فينا وعاد الموضوع يتمثل لنا، فأجتمعت رءوسنا في ركن من الحديقة نسأل بعضنا بعضا عما يجب أن نفعله في هذه المناسبة.. وتقدم بعض منا باقتراحات لم تلق من الجماعة استحسانا، وعندئذ توجه البنات إلى يطلبن الرأي، كما أعتدن أن يفعلن في مناسبات الفوضى والجموح!
وزين لي الطيش وسيلة جهنمية، فطلبت إليهن يقاطعنه كل المقاطعة، ورسمت لهن خطة تشعره رغما عنه بإنه في جنازة صامتة، ثم حذرتهن من التخلي عنها مهما حدث، وكنت أتوقع أنه سيثور كعادته، فيوجعنا بأقسى النعوت والأوصاف، ولذلك إعددت البنات لهذا الاحتمال، وذكرتهن بأنها فرصتنا الوحيدة للانتقام..
وكان أول درس له عندنا في ذلك اليوم، فدخل إلينا مصفر الوجه نحيل الجسم زائغ النظرات، وكأنه قضى فترة غيابه عنا في جوع ومرض وشقاء.. ولم تأخذنا به الرحمة رغم ذلك، بل مضينا في تنفيذ الخطة الموضوعة كان من عادتنا أن نقف احتراما، لكل مدرس.
ساحة النقاش