بين الاجتماعى والسياسى.. مشايخ السينما المصرية

 

كتبت :منال عثمان 

لم يعد الأمر من الممكن طيه فى حيز الكتمان.. فقد تسلل من السراديب ووقف أمامنا فى بقعة مضيئة.. حتى لا يتعلل أحد أن بصره لم يلحظه اختلط عليه الأمر.. التصق فى البقعة الضوئية ليقول بكل تحد أنا هنا... انسفوا كل مفاهيمكم الفنية القديمة والقوها من أقرب نافذة.. فالفن أعظم لغات التخاطب والرافد الأعظم الذى يجرى سلسبيله بين الشعوب .. وأهله الذين اختاروه طريقا.. والمائة سنة سينما وأكثر.. كل هذا هباء ولدى بعض العقول التى - لمؤاخذة - مغلقة بالضبة والمفتاح قد يكون حراما ورجسا من عمل الشيطان.. فقد يكون التجسيد أو التشخيص بمعنى الاستغراق فى تفاصيل الشخصية المؤداه الذى يأخذون عنه الأوسكار والسعفة الذهبية فى المحافل والمهرجانات!! محرما حرمة التماثيل.. صنع التماثيل بمعنى فن النحت، ففى إحدى القنوات الدينية..

خرج علينا أحد الشيوخ وتخيلوا مهاجما من؟.. مثّال مصر العظيم (محمود مختار).. وسخر من الرائع (جمال السجينى) وربط بشكل يحطم الأعصاب بين (تمثال نهضة مصر) ومشروع النهضة الذى يحمله برنامج أحد المرشحين الإسلاميين للرئاسة!! الأمر فى غاية الخطورة، خاصة وقد كشروا عن أنيابهم بهذا الحدث الذى أحدث دويا بمحاولتهم الزج بعادل إمام فى السجن لتقديمه فى أفلامه من سنوات عديدة شخصية رجل الدين بشكل تهكمى وساخر .. أذى مشاعرهم التى لم تتحرك فى آوان هذه الأفلام وتحركت الآن بعد أن صعدوا فوق مقاعد القمة فى كل مكان ولم يقتنعوا بضرورات الدراما وأن ما قدم فى هذه الأفلام من شخصيات دينية أراد صانعوها أن يوضحوا خطر الإرهاب فى هذه الآونة من تسعينيات القرن الماضى.. وحقيقة الأمر نجحوا لأن خطر الإرهاب زال تماما مع نهاية التسعينات ولا جدال هذه الأفلام التى يعتبرونها من (أوزار) عادل إمام الآن كان لها دور فى درء هذا الخطر، ولعلنا فى هذا الاستعراض لشخصية رجل الدين فى الفن ودوره وتأثيره فى دراما العمل نرفع راية الإنصاف ونضع الأمور فى نصابها... فالفن مهما اختلفت المعايير والأذواق وانقلبت الأهرامات سيظل يشير بأصابعه إلى مواطن الأخطار التى من الممكن أن تهز المجتمع.. وأيضا للنماذج الجيدة التى قد تخلص منها بعبرة وعظة قد تغير حياة البعض.. وهذا دوره.

ولنبدأ بنموذج الشيخ حسن الدور القوى الذى أداه نجم الأمس القدير يحيى شاهين فى فيلم «جعلونى مجرما» رجل الدين الذى كان الملجأ والملاذ للشاب الهائم فى الدنيا الذى لا يضع حسابا لأية أخلاقيات ويسرق وينهب ويحتال ومحاولات ردعه الذى يقوم بها صديقه الشيخ حسن التى تفلح مرة ولا تفلح مرات حتى أنه فى نهاية الفيلم وبعد حوار صاعق بينه وبين الشاب اللاهى الذى أداه فريد شوقى.. يرفع يده يريد أن يصفع الشيخ وهما داخل المسجد بجوار المنبر ولا يوقفه إلا (الله أكبر) الأذان يؤذن، فينهار الشاب فى حضن الشيخ الطيب الورع الذى يهدى الناس إلى الحياة الكريمة، وعلى غرار آخر فى دراما أخرى صاغها القدير ثروت أباظة مؤلفا، وقدير آخر حسين كمال مخرجاً فيلم «شئ من الخوف» ونفس النجم يحيى شاهين فى ثوب (الشيخ إبراهيم) شيخ القرية الرائع الذى يحبه ويجله الكل خاصة شباب القرية والذى يعرف بواطن أمور زيجة (عتريس وفؤادة) الذى رغم الحب بينهما ترفض جبروته وقسوته وطغيانه فيتزوجها رغما عنها وعن أسرتها.. فيخرج الشيخ إبراهيم بعد مقتل ابنه الشاب محمود ليلة عرسه صارخا أن (جواز عتريس من فؤادة باطل) لأنه تم دون رضاها ولم يوقف صوته ودموعه أن يقتل رجال عتريس ابنه، فتوضح صورة رجل الدين الرائع أن لا شئ يرجعه عن موقفه وعن فتواه المقتنع بها دينيا وإنسانيا ولا حتى مقتل ابنه..

وكان رائعا يحيى شاهين أيضا وهو يعيد الكرة للمرة الثالثة ويرتدى (الجبة والقفطان) ليلعب دور (الشيخ حسونة) فى رائعة يوسف شاهين «الأرض».

الشيخ الذى يحمل فى قلبه الدين وتعاليمه لكن أيضا له أطماعه وطموحاته، لنرى نموذجاً قدمته السينما لهذه النوعية المنقسمة الفؤاد... كلام الله على اللسان ومن الممكن تطويعه لخدمة أمل يداعب العيون والقلب حتى لو كان رضا جمعية الشبان المسلمين الموجود فى رمسيس، ورغم صغر عمرى شعرت أنهم يحترمون الفن، ولغة التجسيد.. ورأيى أن طوال الحياة سيكون الدين موجودا والابداع أيضا موجودا.

 تشعر أستاذ نور أن الثورة سرقت؟

يصمت برهة..ثم يقول:

- طبعا الثورة سرقت وأعتقد السبب القوى وراء هذا عدم اتحاد شباب الثورة فى كيان واحد، وتناثره، وتشتته فى 127 أو 128 ائتلافاًَ.. هل هذا كلام؟ هذا هو الخطر المحدق بالثورة لأنها كان لابد أن يكون لها رأس واحد.. لاعدة رؤوس..فنحن لدينا مثل شعبى يقول «المركب التى لها ريسين تغرق»، ورغم أن الثورة سرقت إلا أنها تمت ولن تموت رغم كل هذا الخلط واللخبطة التى نعيشها والأبواق الزاعقة، والأفكار المشوشة والأحلام المريضة المعششة فى الرؤوس، والصراع والتناحر والتكذيب، والتخوين، كل هذا يرهقنا دون فائدة حقيقية لابد أن نهدأ قليلا.، نستوعب التغيرات السريعة والمستجدات ونثبت لأنفسنا قبل الآخرين أننا جديرون بهذه الخطوات الرائعة التى أذهلنا بها من كانوا ينظرون لنا نظرة ضيقة.

من هو أعلى منه مثل الدور العبقرى الذى أداه الراحل حسن البارودى فى تحفة صلاح أبوسيف «الزوجة الثانية» الذى حتى يقنع الزوج بطلاق زوجته ليتزوجها العمدة يقول له: «وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم...».

ورجل الدين على هذا الغرار قدم كثيراً... ما بين الرجل النافع بدينه ونصائحه والمنتفع، وانقضت الفترة حتى مع إطلالة التسعينات والسنوات الأخيرة من الثمانينات تحول النموذج .. فلم يعد اللسان معطرا بكلام الله ولم تعد الوجوه سمحة ولم يعد الزى الإسلامى المحبب (الجبة والقفطان) هو الذى يرتدونه، تحول كل شئ.. الوجوه صارمة.. اللسان زاعق بأن هذا شرع الله.. الجلباب الأبيض.. اللحية.. لم يعد هناك النموذج الوسطى الجميل الذى عرفناه فى فترة سابقة وبدا هذا ظاهرا على استحياء مثل فيلم «أبناء وقتلة» ودور الابن المتدين (زهير)... والأجزاء الأخيرة فى مسلسل «ليالى الحلمية» والدور الذى أداه (علاء مرسى) الذى يحدث له تحول غريب حتى أنه يحاول أن يمد يده على خالته التى ربته لأنها لا ترتدى الحجاب!

واتسعت الظاهرة بهذا الانخراط فى هذا العالم الذى وضعنا فيه (وحيد حامد) فى مسلسله «العائلة» عندما تدخل بطلته ليلى علوى هذا العالم وترتدى النقاب وتعيش تفاصيل حياة غريبة.. نظرنا لها من ثقب الباب فى العديد من الأعمال لكن لم نرها بقوة إلا فى أفلام «الإرهاب والكباب» و«الإرهابى» و«طيور الظلام» نماذج لرجل الدين الجاف أشعث الشكل.. صارم المحيا.. لا يتعامل إلا بالعنف.. قتل المخالف لرأيه هو الحل الأمثل خاصة المفكرين وأصحاب الآراء الخاصة، لا خلاف أنه نموذج كنا ومازلنا نراه فى المجتمع.. يعنى لا وحيد حامد ولا عادل إمام اخترعاه وإن قدماه فى أفلامهما فلم يكن من باب الاستهزاء والسخرية وازدراء الأديان، لكن قرع جرس الإنذار نموذج لا يمكن غض الطرف عنه، نراه حولنا وهذا كما اتفقنا دور الدراما.. ولم يقدماه هما فقط بل هناك «الثلاثة يشتغلونها» فيلم ياسمين عبدالعزيز.. ومرحلة دخول الشخصية فى هذا الجو الدينى حتى أنها وهى بالنقاب تدخل على أسرتها وتقول أن التليفزيون حرام وهذا حرام وذاك حرام.. فظهر جوهر الشخصية ولو بشكل كوميدى.. و«حسن ومرقص» و«دم الغزال» ومسرحية «الجنزير» لمحمد سلماوى والعديد من القوالب الدرامية قدمت شخصية رجل الدين فى مراحل مختلفة وبالشكل الذى يراه المؤلف وتوظيف الدور.. يعنى لو كان يرفع لواء الهداية فى دراما العمل يؤسس الشخصية لهذا الغرض.. ولو كان يرفع راية النفاق نفس الشئ... وعندما ابتلى المجتمع المصرى ببلاء الإرهاب تحول شكل ومضمون الشخصية الدينية، فرجل الدين فى الفن بكل قنواته خط وثيق الصلة بالدراما وملتحم بها فى الأعمال التى قدمت، ولم يكن الغرض أبدا التهكم بل رصده فى مجتمع كان آمنا نعيش فى وئام مسلمين ومسيحيين ونتمنى أن يسترد أمنه .

المصدر: مجلةحواء- منال عثمان

ساحة النقاش

hawaamagazine
مجلة حواء أعرق مجلة للمرأة والأسرة المصرية والعربية أسسها إيميل وشكرى زيدان عام 1955، وترأست تحريرها الكاتبة أمينة السعيد، ومن يوم تأسيسها تواكب المجلة قضايا وهموم المرأة والأسرة المصرية والعربية. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

19,876,017

رئيس مجلس الإدارة:

عمر أحمد سامى 


رئيسة التحرير:

سمر الدسوقي



الإشراف على الموقع : نهى عبدالعزيز