كتب: محمد الحمامصى
يدخل الفيلم التركي "أراف ما بين وبين" أو Araf/Somewhere in Between للمخرجة يشيم أستا أوغلو إلى عالم البسطاء والمهمشين التقليدي والمتواضع الثقافة، بما يحمله من قسوة إنسانية تنعكس على تفكيره وسلوكه وأحلامه وطموحاته وما يعانيه مواطنوه من آلام تختلف أحجامها وأشكالها لكنها تفقدهم متعة الحياة.
اختارت المخرجة لقصته مكانا يؤازر مأساة وكارثية ما يعيشه أبطالها، كافتيريا على طريق سريع محفوف بالمخاطر يجتاحه الضباب والأمطار والثلوج وأحيانا الأتربة، ومدينة قريبة من منطقة صناعية تنفث غازاتها في المكان، و"مقلب" للنفايات الصلبة من يقومون بإلقائها مجهولو الهوية.
تدور القصة حول الشابين الصغيرين زهرة وأولغن اللذين يعملان لساعات طويلة ـ نظام الفترتين ـ بخدمة الزبائن في أحد الكافتيريات البعيدة عن قريتهما والواقعة على الطريق السريع، ويعانيان من وضع أسري مزري، وفضلا عن الفقر تعد أسرة زهرة محافظة، علاقة الأبوين بابنتهما تكاد تكون صارمة لا حميمية فيها، بل إننا لا نر مشهدا يؤكد على تواصل الأبوين نفسيهما، فيما أسرة أولغن تعاني من أب سكير وغير منظم، تكرهه زوجته نتيجة إتيانه بسلوكيات قذرة، ويكاد يكون منفصلا عن زوجته وابنه.
ثقافة كل من أولغن وزهرة لا تتجاوز كل تافه وعابر من برامج التليفزيون ومواقع الانترنت، الأمر الذي ينعكس على أحلامهما وطموحاتها في التغيير، حيث صارت بحثا عن طريق سهل للحصول على المال وحياة الرفاهية، فيحلم أولغن بالحصول على 500 ألف ليرة في حال دخوله المسابقة التليفزيونية، ليرتب بها حياة أسرته ويتزوج من حبيبته، وتحلم زهرة في حال حصولها على هذا المبلغ بالتجول حول العالم، وهكذا تزداد الفجوة بين أحلامهما وواقعهما.
تدعى زهرة لفرح عن طريق صديقتها "داريه" وعشيقها، وهناك تنجذب رجل أربعيني العمر يعمل سائق شاحنة، يعيش داخل شاحنته، ويعاني أيضا من وطأة الوحدة والعمل في ظل ظروف مناخية صعبة على الطريق السريع، عقب الفرح تنام عند صديقتها التي تتركها خارج الغرفة مع سائق الشاحنة الهادئ الغامض، ينتابهما التوتر دون أن يحدث شيء بينهما، لكن زهرة البريئة الساذجة تفتن به وبغموضه، وتترك في ملابسه فردة من حلقها، حين يراها يبادر برده إليها ليبدأ التواصل بينهما والذي ينتهي باللقاء الجنسي.
تحمل زهرة بعد أكثر من لقاء مع سائق الشاحنة، وتخبر صديقتها التي تعترف لها بأنها سبق وأن خاضت هذه التجربة المريرة وأن ابنها تبنته أسرة لا تعرف لها مكان وأنها لم تلمسه منذ ولادته حتى اللحظة، ويدور حديث حول الحب وأن سائق الشاحنة يحبها وسوف يتزوجها، وهناك تدخل الصديقة في ضحك هستيري من سذاجة زهرة.
وبالفعل تتسول زهرة محاولة اللقاء بسائق الشاحنة، وحين تمسك به تخبره بحملها وتقول له خذني معك، فلا يظهر مرة أخرى بعد ذلك، ويختفي تاركا لها مواجهة مصيرها مع أسرتها المحافظة.
تعترف زهرة لأولغن حين يصارحها بقرار زواجه منها، فينهار ويرجع السبب إلى صديقتها التي دفعتها للعمل بالدعارة، ويقوم من فوره بالتوجه لبيت هذه الصديقة ويضربها ويطلق النار ويشعلها، لينتهي أمره إلى السجن دون أن يعترف بالأسباب وراء فعلته هذه.
وتبدأ بها والدتها للمستشفى، وهناك تدخل لتتم عملية إسقاط جنين في شهره الثالث. وبعد استقرارها صحيا تعود زهرة للعمل وتبدأ في مراسلة أولغن، لينتهي بزواجهما في السجن.
يمتلئ الفيلم بالجماليات الفنية التي تجسد قوة تعبيرية هائلة نجحت الكاميرا ونجح أداء وحركة الممثلين في توهجها، مثل اللقاءين الجنسيين اللذين تم بين زهرة وسائق الشاحنة، واللذين اكتنفتهما البساطة والهدوء وخليا من الفجاجة، ومشهد عبور الشاحنات في الضباب والمطر والأتربة على الطريق السريع، ما حمله هذا العبور من صور رسمت جزءا حيويا من المأساة التي يعيشها الأبطال، ومشهد ترقب وانتظار زهرة لسائق الشاحنة والذي يتحول لسجن يبدو العالم خارجه غير عابئ بها، ومشهد إسقاطها لحملها في دورة مياه المستشفى والذي كان مؤلما وقد تم تأديته بحرفية عالية، وهو يتقارب مع مشهد اسقاط النفايات والأبخرة السامة المتصاعدة عنها.
ومع كل ذلك يظل الفيلم الذي عرض أخيرا بمهرجان أبوظبي السينمائي الدولي طويلا ـ يبلغ 124 دقيقة ـ وكان بالإمكان اختزال وتكثيف الكثير من المشاهد الصغيرة دون أن يشكل ذلك خللا على البنية الفنية. كذلك تمثل نهاية الفيلم نهاية تقليدية غير ذات معنى، بل إن فيها فجاجة في الرؤية، حيث كان من الأفضل لو تركت النهاية عند قراءة أولغن لرسائل زهرة التي تعتذر فيها عما جرى وما سببته له، ورجاؤها منه أن ينسى ما مضى ويسمح لها بزيارته ليفتحا صفحة جديدة، لكن أن ينتهي بعرسهما في ساحة السجن وحضور كاميرا برنامج تلفزيوني كانت زهرة تتواصل معه، فأمر ما كان ينبغي للمخرجة الكبيرة يشيم أن تفعله
ساحة النقاش