كتب : عادل دياب
يعشن معنا بأفكارهن وأعمالهن العظيمة، فلا ننسى أن المصرية كانت قديما ملكة متوجة بينما العالم يعيش في الكهوف، وظلت حديثا في المقدمة تسبق غيرها بخطوات. إنهن نساء رائدات نتذكرهن ونفخر بهن.
كثيرون لا يعرفونها رغم أنها أول جراحة مصرية، وأول امرأة تنال عضوية نقابة الأطباء، وأول امرأة تحمل لقب حكيمباشي، وأول طبيبة تجري عملية قيصرية في مصر.
كثيرون لا يعرفون الرائدة الجليلة الطبيبة كوكب حفني ناصف، الشقيقة الصغرى للرائدة الأديبة ملك حفني ناصف، وتلميذة رائد طب النساء والتوليد العظيم الدكتور نجيب باشا محفوظ، الذي سمي أديبنا الكبير نجيب محفوظ تيمنا باسمه.
ولدت كوكب حفني ناصف في أبريل عام 1905 لأب مستنير متحرر من الأفكار التقليدية، آمن بحق بناته في التعليم والمعرفة، تماما مثل إخوتهم الذكور، ساعدته مكانته الاجتماعية والعلمية في أن يكون قدوة ومثلا، فهو الأزهري الأديب الشاعر القاضي المنفتح على ثقافات العالم، صاحب التأثير الكبير في شخصيات أبنائه، خاصة كبراهن باحثة البادية اللامعة الشهيرة ملك حفني ناصف، وصغراهن الطبيبة الرائدة كوكب حفني، وإن كان قد تأثر وحزن حزنا عميقا بلغ به حد الاكتئاب للوفاة المبكرة لابنته الكبرى ملك، وهي الوفاة التي تركت أثرها في كل أفراد الأسرة.
أما الأم فهي سيدة من عائلة كبيرة، تعلمت في البيت وملكت شغفا للقراءة والمعرفة أشبعته بمطالعة المجلات والكتب والنقاشات مع الزوج الموسوعي المثقف، ومما روته الدكتورة كوكب عن أمها أنها “كانت مهتمة بأخبار المجتمع والسياسة، بارعة في حل المسائل الحسابية المعقدة دون أن تلجأ للورقة والقلم، كانت تحب التعليم تدفعنا دفعا في طريقه وتشجع عليه جدا، في أيامها لم تكن هناك مدارس للبنات، لكنهم علموها، خاصة حين تقرر زواجها من أبي، فأكملوا لها تعليمها في البيت، لأن أبي كان رجلا متعلما، وكانت كل يوم صباحا تقرأ الجورنال قبل أن يستيقظ أحد، وتعرف الأخبار الموجودة به، وتحكي لنا بعد ذلك كل حاجة”.
إخوة كوكب ستة، أختان هما ملك وحنيفة وأربعة إخوة هم جلال الدين ومجد الدين وعصام الدين وصلاح الدين، كلهم تلقوا تعليما جيدا والتحقوا بوظائف ومناصب عالية فيما بعد، لكن أكثر الذين أثروا في كوكب هي الأخت الكبرى ملك، التي كانت على عتبات العشرين عند ولادتها، و”لعبت دورا كبيرا في نشأتها وتلقينها الشعر والأخلاق الحميدة”، على حد قول كوكب، التي تضيف عنها “حزنت كثيرا لوفاتها، الحزن أصاب جموع الناس ملك عاشت دائما معي، لقد ظللت في إنجلترا 12 سنة صورتها أمامي، لم أشعر أنها رحلت، ولكن أنها موجودة، ملك علمتني قبل موتها وعملت مني حاجة بعد ما ماتت، ربتني في الحالتين، وأنا أعرف شعر عربي كتير قوي بسببها، هي من علمتني قبل وفاتها”.
إخوتها مجد الدين وجلال الدين، كان لهما تأثير كذلك في حياتها، وقد كان من تأثيرهما فصلها من المدرسة السنية؛ والقصة أن الشابين كانا وطنيين إلى أقصى حد، يرفضان الاحتلال، ويخرجان في المظاهرات ضده، وقد انتقلت عدوى البطولة والحب الشديد للوطن منهما إليها، فلما كانت ثورة 1919 اشتركت كوكب مع زميلتها منيرة روفائيل وطالبات أخريات في إشعال الاحتجاجات داخل المدرسة ومدرسة البنين المجاورة، وكانت النتيجة الفصل من المدرسة لمدة عام بتحريض شديد من الناظرة الإنجليزية مس هاردينج، التي ظلت تناصبها العداء، حتى بعد انتهاء سنة الفصل، حين رغبت كوكب في الالتحاق بمدرسة الحلمية، فتتبعتها مس هاردينج بالشكوى والطعن بأنه لا يحق لها الالتحاق بمدرسة حكومية في ظل فصلها من أخرى، واتهمتها بأنها معادية للإنجليز، لكن كوكب نجحت في الالتحاق بمدرسة الحلمية وتفوقت، وكانت واحدة من خمس فتيات سافرن في بعثة لدراسة الطب في لندن عام 1922، ولأنها أحبت تخصص أمراض النساء والتوليد، فقد طالبت بنقلها إلى مدينة دبلن لتوفر كلية متخصصة هناك، وبعد عام في دبلن حصلت على دبلوم في هذا التخصص.
عادت كوكب إلى مصر لتتلمذ على يد الجراح وأستاذ طب النساء والولادة الأشهر نجيب باشا محفوظ رائد علم أمراض النساء، وعملت في مستشفى كتشنر (شبرا العام حاليا) في عدة تخصصات منها الجراحة والباطنة وأمراض النساء، وبسبب سمعتها وشهرتها تم ترشيحها بناء على طلب من الملك عبد العزيز آل سعود لتسافر إلى المملكة العربية السعودية، لتعمل كطبيبة نساء في القصر الملكي، لكنها لم تحتمل البعد عن مصر لأكثر من عام، عادت بعد ذلك لتستأنف عملها عام 1941 في مستشفى كتشنر من جديد، وكان حلمها أن ترى هذا المستشفى يتحول إلى مستشفى حكومي مصري، وظلت تعمل من أجله حتى تحقق ذلك عام 1964.
خلال هذه الفترة أصبحت كوكب حفني أول مصرية تحمل لقب حكيمباشي وأول طبيبة تجري عملية ولادة قيصرية، وأسست أول مدرسة للتمريض في مصر، قبل أن تعتزل وتتفرغ للحياة مع أحفادها عام 1965 بعد أكثر من ثلاثين عاما في ممارسة الطب، وقد رحلت عن عالمنا عام 1999 تاركة وراءها ذكرى حياة حافلة بالعمل والتكريم والمجد.
ساحة النقاش