بقلم : إقبال بركة
شيعته بزفرة حارة.. أطلقت عشر ما بقلبها من ألم.. تلك هي المرة الأولى التى تعرف فيها معنى الحسرة، إحساس عميق بالخسارة، بالفقد لشيء عزيز كان يملأ حياتها بهجة، عصفور رائع الألوان عذب الصوت كان يزقزق حولها للحظات فيخترق صوته الرقيق شغاف القلب وتسرى فى الجسد رعدة لذيذة وتتحول الدنيا إلى جنة مبهجة كل ما فيها عذب وجميل.
شيعته بزفرة حارة والإدراك يتسلل رويدا إلى عقلها، وتسطع الحقيقة واضحة صريحة مؤلمة نفاذة، إنه لم يعد كما كان لقد تغير شيء ما صار يقف حائلا بينهما، شيء كان كالستار الشفاف، تراه ولا تهتم بوجوده لأنه لا يخفى ما خلفه، لا يخفى عاطفته الجياشة نحوها ولهفته للقائها وإلحاحه فى السؤال عنها وبحثه الدءوب عن فرصة لقاء سريع مهما كانت الظروف.
لم يكن يعترف بأية عواقب عندما تشتعل فى قلبه الرغبة للقائها، يتخطى كل السدود ويقفز أعلى الحواجز، فتجده أمامها ممتطياً كالفارس النبيل جواد الحب الأصيل.
والأسباب كثيرة، بعضها له وبعضها لها، والنتيجة أن العصفور زاهي الألوان عذب الصوت ما عاد يرى ولا يسمع، وأن الفارس النبيل اختفى وتلاشى صهيل جواده الأصيل، ذاب مع الغروب، وها هى الحسرة تغشى أعماقها، كما تتمدد مياه البحر، وينحسر الأمل وتذوب الرغبة فى عمل أى شيء فلا فائدة.
لقد فرح القلب الصياد بصيد ميت، منذ البداية ولد حبهما ليموت، لأنه ولد فى جوف الخوف فى كهف مظلم بارد لا يصله نور الشمس ولا يتجدد هواؤه، فى البداية لمحته، كان أروع إحساس مر بقلبها منذ وعت الحياة، وتابعت ميلاده وتأملته برفق وهو ينمو لحظة بلحظة، شيء أجمل من الجمال وأروع من الروعة. كان نورا ساطعا بدد الظلمة وأشاع دفئا وحيوية، فاستكانت له وهدأت أياما ثم بدأ الخوف يزحف داخل روحها، وسؤال مرتعد مجنون، ماذا لو انطفأ النور وعادت البرودة، وأصبحت فى الكهف المظلم وحدى! ولشدة الخوف راحت تقبض على النور وتضغط عليه فإذا به يتلاشى، وهاهى تلمح البصيص الأخير يتراجع ويذوى، وما خالته فى البداية حاجزا شفافا تحول إلى ستارا سميكا يحجب الضوء ويصد الدفء، ولا تملك سوى الزفرات، لقد ضيعته بنفسها، هى التى ركلته بقدميها ليبتعد، كانت تخشى من اقتراب الضوء أكثر، تخشى أن يتحول إلى لهب فتحترق فى حرارته، كانت تعرف أن بداخلها شوقا عارما للانصهار، كانت تخشى نفسها أكثر مما تخشاه، فلكم حلمت بلقائه ولكم تخيلته وتخيلت فرحتها به، وعندما هل عليها رأته أجمل وأعذب كثيرا مما بدا لها وهو على البعد، وعندما رفرف بجناحيه حولها أصابتها نشوة عارمة فراحت تطوح بذراعيها يمينا ويسارا فى محاولة يائسة للإمساك به، ولكنه جاء بنفسه وحط على كفها فى هدوء وراح يتأملها بعينيه المستديرتين الصغيرتين.
ولكم كانت صدمتها لحظة أدركت أنها حين شددت قبضتها عليه، وضمته لصدرها فى شوق عارم خنقته وراحت تتأمل جسده البارد ذاهلة، ما زالت أصداء زقزقة العصفور زاهي الألوان تتردد فى أذنيها، فتتلفت يمينا ويسارا باحثة عن مصدر الصوت، ولا ترى شيئا، حتى الصوت نفسه راح يبتعد، وصداه يتلاشى ولم يبق لها إلا ظلام بارد، ووحشة مميتة فى كهف عميق اسمه الحسرة._
ساحة النقاش