بقلم:د. رانيا يحيى

دائماً ما تؤكد المرأة على قدرتها على البناء والتنمية والمقاومة والتحدى، وهذه بعض صفات المرأة العربية التى عانت على مدار عقود للدفاع عن أوطانها ضد أى اعتداء أو غزو أو احتلال، فقد كانت تتصدر الصفوفغير أبهةبأية عواقب بل كانت دائماً أهدافا ذات قيمة عالية من الأعداء، وقد لمعت أسماء عدة فى سماء التضحية كالجزائرية جميلة بوحيرد، وفاطمة نسومر، وعروس الجنوب اللبنانية سناء محيدلى، ويسار مروة، والتونسية آمنة براهم والفلسطينيتين ليلى خالد ودلال المغربى.

لم تغب المصرية عن المشهد بل قدمت أجل معانى الفداء حينتصدت للاحتلال فى ثورة 1919 مدافعة عن أرض وطنها ضد المحتل الأجنبى ساعية للجلاء والتحريرلتتلقى فى سبيل ذلك رصاصات الغدر وتسقط شهيدة وليسجل التاريخ بأحرف مننور أول شهيدة مصرية، وتطورت الأوضاع واستمرت المرأة المصرية تتحدى الأخطار ووقفت أمام القوى الإرهابية والظلامية العاتية عقب أحداث 2011، لتمثل رمزاً للبطولة والتضحية والفداء حينما ألقت بنفسها فى كافة ميادين مصر متصدرة المشهد المهيب الذى أذهل العالم فى ثورة الثلاثين من يونيو عام 2013، والحقيقة أن أدوار البطولة للمرأة لم تقتصر على ميدان دون الآخر بل باتت المرأة وجهاً للحقيقة الغائبة بقوتها وجرأتها، ومقدرتها على الصمود والتحدى دون خوف على الأرواح أو الممتلكات، بل كان الغالب والمسيطر هو الخوف على الوطن.

ظل استقرار الوطن الهم الشاغل للمرأة فى أمتنا العربية والنماذج المناضلة المشرفة كثيرة، ومؤخراً زادت أعداد المناضلات ببطلة عربية سنظل نذكرها ولن ننساها بما قدمته من مهنية واحترافية بأدائها المتميز كإعلامية عربية، ابنة فلسطين الصحفية والمراسلة الدؤوبة شيرين أبو عاقلة، أحد أبرز الشخصياتش فى وسائل الإعلام العربية، ونموذج إعلامى عربى مشرف بما تناولته من قضايا مهمة وملحة وأحداث كبرى.

ولدت شيرين أبو عاقلة في القدس عام 1971 لعائلة تتحدر من مدينة بيت لحم، وقد أنهت أبو عاقلة دراستها الثانوية في مدرسة راهبات الوردية في بيت حنينا، كما درست في البداية الهندسة المعمارية بجامعة العلوم والتكنولوجيا في الأردن، ثم انتقلت إلى تخصص الصحافة المكتوبة، وحصلت على درجة البكالوريوس من جامعة اليرموك بالأردن، وبعد تخرجها عادت إلى وطنها فلسطين وعملت في عدة مواقع إخبارية مثل وكالة الأونروا، وإذاعة صوت فلسطين، وقناة عمان الفضائية، ثم مؤسسة مفتاح، وإذاعة مونت كارلو والجزيرة.

صحفية مخضرمة، وشخصية عنيدة متحدية، تتصدى للجهل والغدر، باتت قضيتها الوطنية محور حياتها وهدفها، لذا لم تكتف بقدر معرفتها وعلمها، وإنما أخذت فى تعلم اللغة العبرية حتى تمتلك قدراً أكبر من الفهم مؤمنة بأن من تعلم لغة قوم أمن مكرهم –لكنها للأسف لم تأمن غدر رصاصهم-، كما عملت على تنمية مهاراتها المهنية بحصولها على شهادة دبلوم فى الإعلام الرقمى من جامعة بيرزيت فى بلدها، وأخذت شيرين مهنتها رسالة لصوت الحق فظلت تجوب المعارك والأحداث مدافعة عن قضيتها لإعلاء صوت الحق، حيث تعاملت مع الإعلام كوسيلة راصدة وكاشفة تنقل المعلومة والخبر والحدث، تابعها ملايين من العالم العربى، لما تحلت به من مهارة وتفوق ومهنية شديدة.

ذاعت شهرة شرين كمراسلة محترفة، أجرت حوارات كثيرة مع سجناء فلسطينيين، وكتبت تقارير كثيرة منها الانتفاضة الفلسطينية الثانية وغيرها، حتى كلل مشوارها العملى والإعلامى بإحدى الحسنيينلتقع شهيدة على أيادى قوات الاحتلال الإسرائيلى أثناء تغطيتها أحداث مخيم جنين، وآثار اغتيالها جميع وسائل الإعلام والمواقع الإخبارية، وودع جثمانها فى جنازة مهيبة اعتبرها البعض أكبر جنازة فى التاريخ الفلسطينى المعاصر، حيث امتد طولها لمسافة خمسة وسبعين كيلو متر من جنين إلى القدس.

 لم تنتبه أو تكترث شيرين لعالمها المحفوف بالمخاطر أثناء تأديتها لمهنتها بل كانت تبحث عن المعلومة والحقيقة التى ترغب فى توصيلها عبر الشاشة من خلال نقل الأحداث والوقائع لحظة بلحظة فى خضم المعارك، مهما يكلفها ذلك أو قد يعرضها للخطر، كانت ترتدى الصديرى الواقى وخوذة الرأس وتندفع إلى معترك الأحداث معتبرة نفسها جندية تحمل سلاحها لتدافع عن الحقيقة التى قد تغيب، وبالفعل استطاعت بنقلها لأدق التفاصيل أن تحظى على متابعة جيدة وتقدير من الجميع نتيجة إيمانها بدورها وقضيتها ورسالتها التى آمنت بها، حتى لحظاتها الأخيرة.

ابتسامتها وهدوئها على الشاشة جعلها قريبة لجمهورها، ينتظر طلتها البهية، حتى انفعالها مع بعض المواقف والأحداث كان طبيعياً صادقاً لا يشوبه زيف أو افتعال غير مبرر، ما خلق منها أيقونة للمراسل الإعلامى النابه الصادق، وأعتقد خير دليل على ذلك هو التفاعل الإعلامى مع ما تعرضت له من غدر واستشهاد، فنجد مظاهرة حب تشيعها بدعوات بالرحمات وصلوات من كل الأديان.

لم يكن متابعيها ومحبيها يعرفون ديانتها أو عقيدتها لكنهم يدركون إنسانيتهاالتى توارت وراءها الاختلافات الجنسية والعقائدية والدينية بل والسياسية أيضاًوليتشارك الجميع حول من فاضت روحها وصعدت لبارئها دون انتماء غير إعلاء شأن الكرامة الإنسانية والمشاعر الفياضة والأحاسيس النبيلة تجاه امرأة مناضلة استحقت منا أن نقف يداً واحدة داعين المولى أن يتقبلها فى جنات الخلد، وأن نتذكر دائماً أن نتجنب الانشقاقات والاختلافات وكافة المعايير الحسابية العقلانية وأن نتطهر من الهواجس والضلالات فى مواجهة رمزية الإنسانية، وكذلك أن ندرك قيمة الكلمة التى لا تموت.

وتخليداً لدورها الوطنى وذكراها الطيبة فى نفوس قرائها ومتابعيها فقد أعلن مهرجان القدس للسينما العربية فى دورته الثانية إطلاق اسمها على جائزة الفيلم الوثائقى تخليداً لعطائها ودورها كمراسلة فى توثيق الأحداث من قلب فلسطين، كما دعت نائبة مصرية لاستحداث جائزة إعلامية مصرية للأعمال الصحفية المتميزة باسمها تكريماً لدورها الإعلامى فى رصد الحقيقة، رحم الله الجندية المقاتلة شيرين أو عاقلة شهيدة الإعلام العربى

المصدر: بقلم:د. رانيا يحيى
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 332 مشاهدة
نشرت فى 26 مايو 2022 بواسطة hawaamagazine

ساحة النقاش

hawaamagazine
مجلة حواء أعرق مجلة للمرأة والأسرة المصرية والعربية أسسها إيميل وشكرى زيدان عام 1955، وترأست تحريرها الكاتبة أمينة السعيد، ومن يوم تأسيسها تواكب المجلة قضايا وهموم المرأة والأسرة المصرية والعربية. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

19,698,587

رئيس مجلس الإدارة:

عمر أحمد سامى 


رئيسة التحرير:

سمر الدسوقي



الإشراف على الموقع : نهى عبدالعزيز