التصالح مع الفاسدين

كتبت :أمل مبروك

حركة فى المكان وليس الاتجاهأعتقد أنه ليس هناك في العالم كله شعب عاطفي متسامح سريع العفو والنسيان مثل شعب مصر.. وربما كان هذا هو السبب فى ارتفاع نبرة صوت تنادي بقبول بضع ملايين أو مليارات من سارقي مصر مقابل العفو عنهم ونيل حريتهم ، مع العلم أن هذه المليارات كلها من دماء المصريين .!! ولأننا نتحدث عن عشرات و مئات المليارات المسروقة ، فإننى أذكر أصحاب هذا الصوت أنه في قانون العمل المصري إذا ثبت على موظف أنه اختلس أو سرق أو تلاعب في أرقام زهيدة أو وقع في مخالفة مالية صغيرة جدا لا تتعدى مائة جنيه .. أو كبيرة تصل إلى ألف أو بضعة آلاف من الجنيهات .. فورا يتم التحقيق معه وتوقيع الجزاء عليه بالخصم من راتبه أو النقل أو الفصل أو الحبس أحيانا وذلك حسب حجم سرقته، ولا يقبل منه على الإطلاق مجرد الاعتذار أو دفع ما سرقه مقابل حريته أو براءته أو العفو عنه ، فهل يعقل أن نتعامل بهذه السهولة والبساطة مع كل من سرقوا هذه المليارات وساهموا في فساد كل قطاعات الدولة؟

خمسة أهداف

أصحاب دعوة التصالح مع الفاسدين يرون عدداً من الأهداف التي سيحقّقها المُتضرر المُباشر وهوالمواطن المصرى "الغلبان"، وهى:

1- بما أنّ "حبال الدّولة طويلة" فلمَ لا نُشعر أنفسنا بالراحة السريعة ونحن نرى مالنا المنهوب يُردّ لنا بسرعة؟

2- إنعاش خزينة الدولة العامّة بعد الحصول على حقوقها كاملة.

3- الانعكاس الإيجابي اقتصادياً واجتماعيّاً وعلى باقي مناحي الحياة.

4- طمأنة الجادّين والشّرفاء من المستثمرين وإخراجهم من حالة قلقهم من المستقبل والتي دفعت بأغلبهم إلى تجميد استثماراتهم، وبالتّالي تراجع إنتاجيّة المصانع فتراجعت معها صادراتنا وانخفضت موارد البلد من تأمينات وكهرباء وضرائب...وغيرها.

5- القضاء على "موضة" الإشاعات وإطلاق الاتهامات دون أدلّة وبراهين دامغة وإنهاء حالة التّشفّى والحد من الرغبة في الانتقام المسيطرة والمنتشرة داخل شرائح مجتمعية كثيرة شعرت وتشعر بالظّلم والتهميش.

وبالتالى فإن التّصالح المشروط - من وجهة النظر هذه - أفضل بكثير من حبس المتهمين وإخراجهم بكفالة أو بعد محاكمات يمكن أن يستغرق معظمها سنوات وسنوات فيكون قد مات منّا من مات وهرِم من هرِم، ناهيك عن أنّ سجن هؤلاء لن يفيدنا دون عودة المال العام المسروق .. وهذا التّصالح سيقتصر على كلّ ما يخصّ جرائم الفساد المالي فقط لا غير، فلا تسامح في الجرائم الأخرى كالبلطجة وجرائم القتل وتزوير الانتخابات...الخ، ويشترط على كل فاسد مالي قد خضع لشروط هذا التّصالح ألا يمارس في المستقبل أي عمل سياسى .

محاكمة القرن

ولكن ينسى هؤلاء أن خطوات مواجهة الفساد على مدار الفترة السابقة كانت خجولة وشكلية وأحيانا خادعة، بحيث تحاول إرضاء الشعب بقضايا غير جوهرية أو بمتهمين غير أساسيين، وهو مايعنى صعوبة أو استحالة تطبيق التصالح المشروط لعدم إمكانية إثبات تهم الفساد المالى التى تشتغل غالبية شركات توظيف الأموال وإداراتها على إخفائها فى العالم وإعادة تهريبها من بلد لآخر ومن قالب قانونى لآخر. والفترة الماضية منذ قيام الثورة كانت دليلا واضحا على عدم رغبة البعض فى اتخاذ إجراءات واضحة أو حاسمة لفتح هذا الملف، والتعامل معه فى حدوده الدنيا بما يرسل رسائل تطمين للرأى العام بأن هناك حركة فى الاتجاه، وهى فى حقيقتها حركة فى المكان !

والدليل على ذلك الحكم الصادر يوم الثانى من يونيو الماضى، فيما اصطلح على تسميته بمحاكمة القرن، وإذا كانت لا تهمنا كثيرا تفصيلات التهم التى تمت إحالة المتهمين على أساسها، ولا تفاهة الأموال المتهمين بالاستيلاء عليها أو بالتحصل عليها عطيةً، فإن الأهم بالنسبة لنا هو المبادئ الكارثية التى أرساها الحكم والتى تنذر بإغلاق كثير من ملفات الفساد بما لا يسمح لنا ببحثها أو بتناولها أو التحقيق فى وقائعها أو معالجة آثارها، حيث أقر الحكم بأن الوقائع الجنائية التى ارتكبها النظام السابق قبل عشر سنوات من سقوطه أصبحت محصنة ولا يجوز تحريك الدعوى الجنائية بشأنها لأنها سقطت بمضى المدة !! وهو الأمر الذى يعنى أن أهم قضايا الفساد فى التسعينيات وحتى سنة 2002 تم إغلاقها تماما وحماية مرتكبيها، ولا يتوقف أثر هذا الحكم عند هذا الحد، فإن الأموال نواتج الفساد خلال السنوات العشر السابقة والتى لم تتقادم بعد - من وجهة نظر الحكم- مهددة بعدم إمكان تتبعها أو استردادها، إذ تطوع الحكم ليمنحها قرينة البراءة، فأصدر حكما فى وقائع محدودة جدا، لكنه أثبت سلامة سلوك الرئيس المخلوع وسلامة تصرفات ابنيه وشريكه الأول حسين سالم، بما يجعل لهؤلاء الحق فى التمسك بتلك القرينة أمام جهات التقاضى بالخارج وأمام المؤسسات المالية التى كان بعضها مترددا فى السماح لهؤلاء بتحريك أموالهم بين بعض المصارف خوفا من إدانتهم، وها هى البراءة قد واتتهم، ومن ثم يمكنهم استرداد حقهم فى تحريك تلك الأموال ومواصلة مسلسل إخفائها.

وما كان أغنانا عن هذا الموقف لو كنا، منذ البداية، جادين فى عملية معالجة الفساد وملاحقة أموالنا المهربة لاستردادها، وفى نفس الوقت هذا يعنى عدم الحصول على فوائد ذات قيمة من التصالح مع الفاسدين

المصدر: مجلة حواء -أمل مبروك

ساحة النقاش

hawaamagazine
مجلة حواء أعرق مجلة للمرأة والأسرة المصرية والعربية أسسها إيميل وشكرى زيدان عام 1955، وترأست تحريرها الكاتبة أمينة السعيد، ومن يوم تأسيسها تواكب المجلة قضايا وهموم المرأة والأسرة المصرية والعربية. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

19,690,622

رئيس مجلس الإدارة:

عمر أحمد سامى 


رئيسة التحرير:

سمر الدسوقي



الإشراف على الموقع : نهى عبدالعزيز