الغربة هي شكل من أشكال الضياع، الضياع أيضا أشكال، ضياعك من نفسك، من وطنك، من حبيبك، من قلبك، كلنا غرباء ولكن بقدر، أسعد الغرباء من يختار شكل غربته، والأسعد من يدرك حجم الحنين ويعرف كيف يتعامل معه، كيف يصادقه، كيف يستضيفه، يمشط له شعره، يهذب له أظافره، ويصطحبه معه في رحلة غربته.
***
بعض الأماكن عندما تطأها قدماك ترفض الطريق ويرفضها الطريق وبعضها لا تطأها الأقدام لكنها ترقص بخطى حانية، تجد نفسك وكأنك راقص باليه على أرضية مرمرية، تلمس أطراف أصابعك الأرض فتكاد تطير خفة وبهجة، يحتضن قلبك هذه الأماكن الجديدة عليك بفرحة طفل صغير، تتفتح الزهور في النفس وتذهب سيمفونية الحب من أول نظرة توسع دائرة السحر والعلاقة اللامرئية بينك وبينها، البلاد مثل البشر، لا تعرف لماذا تصدك هذه وتشدك تلك، وكأنك تركت بعضا من نفسك، وكأنك تجد تلك القطع المتناثرة في بلاد، ويزداد تشتيتك في بلاد أخرى، عندما تذهب هناك تحس بالهواء يحتضنك، كل شيء يعرفك وتعرفه، لكنك قد تكون ابتعدت عنه لفترة، لا، لم تزرك هذه البلاد في أحلامك ولم تزرها في الواقع من قبل، لكنك تشعر شعورا عجيبا يتملكك، وكأنك عشت فيها من قبل، هذا الميناء تعرفه، هذه الأرصفة تحتضن قدميك، واجهات المحلات، وسائل المواصلات، شيء ما بينك وبين الأشياء، هل ولدت هنا من قبل؟ هل ولدت هنا في زمن آخر؟ ما هذا الخيال؟ عشق متحفظ تشعره، فرغم هذا الشعور أنت غريب وتعرف ذلك.
وأماكن أخرى تشعرك بقهر الوحدة، تبحث عن نفسك، وتبحث عمن تختبيء تحت كراته الحمراء علك تجد الدفء.
لماذا نحب بعض الأماكن ونبغض بعضها، لماذا نجد غربة محببة في بعضها وتنين خوف في البعض الآخر، لماذا نحب ونبغض بدون أسباب؟ وهب المكان مثل الإنسان؟ نحبه من أول نظرة ونبغضه للوهلة الأولى؟وهل الإنسان إلا مكان، وهل المكان إلا تجمع بشر؟
 فلماذا التفرقة؟ هل الإنسان إلا ميناء يستريح عنده قلبك أو ينهزم؟
***
أنقل إليك ما يدور في خلدي، عش معي إحساس الغربة والرحيل، فالرحيل نفاثة تتخطى بك المسافات الطويلة لتهبط بك فتستقبلك الغربة تفصلك عما تركته وراءك، وكأنك تسقط من فراغ، تصبح هشا يهزمك الاحتياج، تتوق إلى أذن تسمعك، عين تراك، عقل يفهمك، في الغربة كل الآذان متشابهة، الأعين كلها واحدة، والعقول لا تختلف، فجأة يختفي من حولك، من اعتدت أن يحيطك بجدار من الحب والدفء والاهتمام، تبعد أصواتهم، تتوه ملامحهم وراء غلالة البعد، وكأنك فقدت شرنقتك، تشعر بفراغ هائل في صدرك، تشعر أنك عار تماما لا شيء يحميك، وكأنك تحتاج إلى قوة الأرض لتواجه هذا الاحساس الذي يسري في جسدك ويمسك بأنفاسك، وأنت تدخل تجربة خاصة جدا.. تجربة الغربة.
***
لا تفتح بابك، فقط أريد صدرك، على ضفاف صدرك تتبدد غربتي، وبين أهدابك أزرع أزهار الأمان.

المصدر: إيمان حسن الحفناوي
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 819 مشاهدة
نشرت فى 26 أكتوبر 2014 بواسطة hawaamagazine

ساحة النقاش

hawaamagazine
مجلة حواء أعرق مجلة للمرأة والأسرة المصرية والعربية أسسها إيميل وشكرى زيدان عام 1955، وترأست تحريرها الكاتبة أمينة السعيد، ومن يوم تأسيسها تواكب المجلة قضايا وهموم المرأة والأسرة المصرية والعربية. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

19,874,787

رئيس مجلس الإدارة:

عمر أحمد سامى 


رئيسة التحرير:

سمر الدسوقي



الإشراف على الموقع : نهى عبدالعزيز