تلفت الطفل ذو الخمس سنوات حوله، وهو يتفحص بإنبهار كل المشاهد حوله علي رصيف محطة القطار، من مسافرين يهرولون، وقطارات تصفر، وباعة يدقون علي زجاجات «المياه الغازية».. فقد كانت تلك المشاهد، صورة جديدة عليه، لم يعايشها من قبل.. واندمج فى تفحص الصور التي تتحرك امام ناظريه بسرعة، وبالألوان التى فاقت في جاذبيتها صور أفلام التليفزيون.

وفجأة إذا بأمه تقبض على رسغ يده بمنتهى العنف، وهى توجه كلمات قاسية من اللوم والعتاب، واندفع جسم الطفل «مجروراً» وراء أمه، وهى تلومه غاضبة لأنه تباطأ فى خطوته، ولم يسرع وراءها ليلحق بخطوات هرولتها على رصيف المحطة لكى تلحق بالقطار الذى تنشده.

ومع ذهول الطفل، واحساسه بالألم الشديد وبالإهانة لأنه أهين أمام كل الناس الذين لا يعرفهم، ولسبب لا يدركه.. فلقد استمرت عيناه تتابعان بكل شغف كل الصور المتغيرة أمام ناظريه وهو يلهث مشدوداً فى يد أمه الغاضبة.

عـذراً سيـدتــي

هذه كانت صورة - ومتكررة - للأسلوب الذى تتبعه معظم الأمهات فى تصرفهم حيال ابنائهم الذين قد يرتكبون، ما نحسبه نحن الكبار خطئاً يتطلب «التأديب، والتهذيب، والاصلاح»، فى التو، واللحظة.. بينما هو فى الحقيقة يكون أسلوباً نابعاً من محاولتهن «التنفيس» عن توتر اعصابهن، أو غضبهن، من الظروف حولهن، أو من شدة خوفهم على سلامة ابنائهن.

ولكن، عملية «التأديب، والتهذيب، والاصلاح»، التى تؤمن بها الكثيرات ماهى إلا شعاراً تتخذه بعض السجون.. ولا أظن اننا نريد ان نجعل احباءنا، ابناءنا يعيشون وراء قضبان المشاعر السلبية الهدامة لنفوسهم البريئة، بلا ذنب، ولا جريرة مدمرة.

فى الحقيقة، أن التأنيب، والتهذيب، ماهما إلا صفة شخصية، وعلاقة اجتماعية، وسلوك فردى، ومهارة مع المجتمع. ويحصل عليها الطفل من خلال ابويه، واسرته، ومدرسته، ومجتمعه.. وكذلك، من خلال القدوة، التى نريد أن تكون حسنة.

ولكن، وللأسف فإن الآباء، كثيراً، ما يحاولون تعليم أولادهم «الأدب.. بلا أدب».. ويحاولون «تهذيبهم بطريقة غير مهذبة».. وعذراً سيدتى، لقوة هذه التعبيرات، وشدة هذه العبارات.. فهذه هى التعبيرات التى وصف بها التربيون العلماء مثل هذه التصرفات الغاضبة الحمقاء فى أسلوب تهذيب، وتوجيه الأبناء. ويزيدون بأن يسوقوا لنا بعض الأمثلة الشائعة الحدوث من الوالدين.. ومنها:

أولاً: في مجال الشكر

فحين ينسى الطفل أن يقول كلمة «شكراِ» للضيف، فان الوالدين يسرعان أمام الأخرين، ويصيحان فيه «هذه قلة أدب». وهذه الاشارة، والعبارة فى ذاتها، «ليست من الأدب فى شىء».

وكثيراً ما يحدث أن يقدم أحد الاقارب هدية لطفل صغير، وهى ملفوفة فى لفة أنيقة، أو مغلفة. فيستولى حب الاستطلاع على الطفل، حتى يسرع بأن يحاول أن ينتزع غلاف الهدية ليرى «ويكتشف» مافى داخل اللفافة.

وهنا تصيح الأم فيه «ما هذا الذى تفعله؟ سوف تفسد الهدية الجميلة؟ ثم ماذا يقول الطفل المهذب، المؤدب، حين يتلقى هدية»؟

فيسرع الطفل بالرد بغضب شديد قائلاً: «يقول شكراً.

ولا تتوقف الأم بل تضيف: «هكذا تكون ولداً ظريفاً.. إذاً هيا اسرع وقل شكراً ياقليل الذوق»!

وهنا يهتف اخصائيو التربية قائلين: «فى الواقع أن هذه الأم (أو هذا الأب) كانت تستطيع أن تعلم طفلها، هذا الدرس فى الأدب، «بطريقة أكثر أدباً» وأقل عنفاً، وأقوى تأثيراً.. وكان فى استطاعة الأم أن تقول: «اشكر عمتك على الهدية الجميلة، التى يمكن ان نفتحها فى البيت، وسوف تجد فيها مفاجأة تعجبك».

أيضاً، كان من الممكن أن يقول الطفل «شكراً» من تلقاء نفسه، لو انه قد تم توجيهه بطريقة مقنعة فيما سبق.. اما إذا لم يقلها، لأن الهدية يمكن أن تكون قد شغلت باله عن كلمة «شكراِ»، ففى استطاعة امه أن تنبهه إلى خطئه بحيث لا تلحظها عين، حتى لتبدو الكلمة وكأنه تدارك الأمر من تلقاء نفسه بعد دقائق، أو أن تنبهه إلى خطئه فيما بعد، على أن - مثلاً - تشجعه على أن يطلب عمته على الهاتف ليشكرها بعد أن يعرف ما بداخل الهدية، أو أن يرسم لها «كارتاِ» صغيراًَ ليشكرها ويسعدها، لانها تفكر فيه دائماً».

ثانياً: في مجال المقاطعة

حين يسترسل «الكبار» فى الكلام، والحوارات مع بعضهم البعض، وينسون وجود الصغار، فكثيراً ما يقوم الأبناء بمقاطعة كلامهم، بأى حجة، ولا يراعون أهمية مسألة تسلسل الأفكار لدى المتحدثين معاً، ولا يدركون سخافة تصرفهم هذا، فى نظر الكبار.. وعليه، فيكون رد الفعل عند الكبار مزعجاً، حتى ليندفع الأب ليقول له، وأحياناً ليصرخ فيه فى عنف وقسوة: «لا تكن وقحاً.. انه من «سوء الأدب» ان تقاطع الكلام».

ويحرج الصغير حرجاً بالغاً، مع أن مقاطعة الكبير له أيضاً فيها «سوء أدب».. والأدب لا يفرض بسوء الأدب.. لذا من الضرورى أن يدرب الآباء أنفسهم على مثل هذه الأمور، وعلى أن تكون لديهم عبارات موجهة جاهزة، لكنها رقيقة وملتزمة، كأن يقول الأب: «بودى ياعزيزى أن أكمل حديثى أولاً، ثم، أعطيك فرصتك للكلام، إذ يأتى دورك».

ثالثاً: في مجال الزيارات

كثيراً ما نسمع اثناء الزيارات العائلية، والصديقات، أن تصبح الضيفة بابنها «الشقى»: كف عن الضجيج، والازعاج». فيسرع الطفل مدافعاً عن نفسه، وبالتالى عن صديقه المضيف قائلاً: «اننا نلعب»! فتسرع الأم مهددة: «لن أتى بك معى مرة أخرى»!

وكثيراً ما يتبادل الطفل وامه الضيفة عبارات حادة، أو قاسية، مما يفسد من الجو اللطيف الذى كان من المفروض أن يسود الزيارة، فالزيارة للاقارب، ولاصدقاء العائلة تعتبر أسلوباً عملياً رائعاً لتربية الطفل اجتماعياً، ولتحميله جانباً من المسئولية، وتدريبه على خلق الصداقات، واللعب مع الآخرين.

وفى نفس الوقت على «المضيفة» مهمة ان تختار المكان المناسب للعب الصغار، وكذلك، أن تضع لهم القواعد التى عليهم أن يسيروا عليها، وتوضيح ماهو مسموح به وماهو الممنوع، من أجل سلامة الجميع. على أن تكون متفقة مسبقاً مع ضيفتها على تلك التفاصيل، لانها صاحبة البيت، وسوف يستجيب لها الطفل الضيف بالأكثر.

أما أن تظل الضيفة طوال الوقت توجه أوامرها الصارمة لابنها، بألا يقفز على المقاعد، وبانه سوف يكسر المصباح، وانه سوف يفسد المسند.. الخ وكأنها تعليمات صارمة، وقوانين مشددة.. فانها سوف تدفعه لأن يفضل أن يمكث فى البيت عن الحد من حريته بالغضب، والشدة، والألفاظ الجارحة.. وقد يرد هو أيضاً بغضب ووقاحة.. فى أول فرصة.

وعليه فإن «الأدب» يجب أن يُعلم للأبناء بالأدب.. وان التهذيب يجب أن يُقدم لهم بطريقة مهذبة. حتى لا نعلمهم «سوء» الأدب بدون أن نقصد.

 

المصدر: ليلى أمين - مجلة حواء
  • Currently 157/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
53 تصويتات / 1535 مشاهدة

ساحة النقاش

hawaamagazine
مجلة حواء أعرق مجلة للمرأة والأسرة المصرية والعربية أسسها إيميل وشكرى زيدان عام 1955، وترأست تحريرها الكاتبة أمينة السعيد، ومن يوم تأسيسها تواكب المجلة قضايا وهموم المرأة والأسرة المصرية والعربية. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

22,835,384

رئيس مجلس الإدارة:

عمر أحمد سامى 


رئيسة التحرير:

سمر الدسوقي



الإشراف على الموقع : نهى عبدالعزيز