بين أصابع اليد أخذ سن القلم الفحم يتحرك بليونة ومهارة فوق سطح فرخ الورق الأبيض . حركات بدأت يده تألفها مع استمرار تدربه على رسم ذلك الوجه بخطوط قصيرة وطويلة تلتقى هنا وتتشابك هناك . انتهى من رسم الطرحة السوداء ، وإطار ذلك الوجه الجالس أمامه فى صمت محايد . جلسة تعودت صاحبتها عليها دورها الذى تؤديه كل يوم تقريبا منذ ترملت وفى رقبتها ثلاثة أبناء . نزل بالقلم سنتيمترات قليلة تحت الجبة شبه البيضاوية . بعدها خط خطين لحاجبين منتظمين صنع الخالق الذى جعلهما مقرونين بلا إسراف، يكادان يحتويان العينين أسفلهما فى انسجام تعرفه عين الفنان . جاء الدور على العينين المصوبتين الى لا شىء تقريبا والمطبق صمتها على أسى دفين . أطلق مرة أخرى نظرة بانورامية على الوجه قبل أن يشرع فى رسم العينين . ثم لمحات تراوغ الناظر لجمال منسحب من الوجه لكنه يشى بما كانت عليه صاحبته منذ سنوات. أكملت اليد التى تعودت رسم طريقها الذى تعرفه برسم حور العينين ومقلتيهما ورموشهما . انتقل إلى الأنف الخالى من العيوب بينما كانت هى فى جلستها تحس دون أن تنظر اليه بحركة يده على الورق بل وإلى أين يمكن أن يكون قد وصل فى رسم ملامحها . ثوان قليلة مرت قبل أن يمد سن قلمه مرة أخرى الى اللوحة . شىء داخله أوقف يده لتلك الثوانى ، وكما الرادار التقط حسها الممزوج بخبرة الجلوس أمامه ذلك التردد داخله . هو الآخر التقطت عيناه فى دقة مذهلة خلجة طرأت على وجهها فى ذات اللحظة، خلجة تكاد لاترى أو تحس ولكن يمكن للفنان أن يتصيدها وبها يستطيع أن يميز تعبير وجه مرسوم على لوحة عن تعبير آخر مهما تشابه التعبيران، شىء قالته عيناها دون أن تتحركا من محجريهما ولو على واحد ، انزعاج خفيف جدا أو قلق غير محسوس تجاه شىء تتوقعه عندما تصل الأيدى لرسم ذلك الجزء من وجهها، هو اشبه مع الفارق الكبير فى عدم الوضوح - بأثر الألم البسيط لشكة الإبرة عندما تنغرس فى يد متعاطى الحقنة وهو مبتعد بنظره عنها . أنهى تردده اللحظى وانحنى بخط القلم مرتين راسماً تجعيدتين زحفتا على الوجه تدريجيا فى السنين الأخيرة، فرضت التجعيدتان نفسيهما عليه بقوة هذه المرة ، لم يعد يستطيع أن يعبرهما بسرعة وإلا فقدت فرشته صدقها التعبيرى . مضى بعدها فى رسم الفم والذقن . رغم الحياد البادى على وجهها بدت الشفتان المطبقتان محاطتان بالخطين المنحيين وقد مالتا قليلا لأسفل فى حزن شفيف مستسلم فى صمت..

أنهى عمله وقدم لها اللوحة قائلا : ما رأيك؟ تأملت فى صورتها المرسومة ثم ردت وعيناها لا تزال سارحة فيها : حلوة . خرجت كلمتها المقتضبة حاملة مسحة من المجاملة بينما شىء داخلها كان يسألها : ما الذى فعله الزمن بك يا أم محمد ؟

المصدر: جهاد الرملي - مجلة حواء
  • Currently 88/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
29 تصويتات / 1060 مشاهدة

ساحة النقاش

hawaamagazine
مجلة حواء أعرق مجلة للمرأة والأسرة المصرية والعربية أسسها إيميل وشكرى زيدان عام 1955، وترأست تحريرها الكاتبة أمينة السعيد، ومن يوم تأسيسها تواكب المجلة قضايا وهموم المرأة والأسرة المصرية والعربية. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

23,259,924

رئيس مجلس الإدارة:

عمر أحمد سامى 


رئيسة التحرير:

سمر الدسوقي



الإشراف على الموقع : نهى عبدالعزيز