تهلل وجهه.. أول مرة يأتى الأتوبيس بهذه السرعة، خط امبابة بالذات مشهور بتأخر عرباته، لم يكن يهتم .. عمله ليس خطيرا يتوقف على الدقائق والثواني، لكنه اليوم كان يخشى على حمله الثمين، عشرة كيلوجرامات من الطماطم مرة واحدة! نصف ساعة تأخير تتسبب قطعا فى تلفها .. حيث هى من اول متفعصة، مسح المحطة بنظراته محاولا أن يتكهن أين سيقف الأتوبيس بالضبط .. وبدأ يتحرك تأهبا لأن يقف فى نفس النقطة التى توقعها ، فجأة وجد أمامه سيدة .. جميلة أنيقة، مع الأسف لا وقت عنده ليملى عينيه من جمالها. الأتوبيس أهم .. أو بمعنى أصح الطماطم التى فى حقيبته أهم، لكن ياللعجب.. هى التى اعترضته.. وجعلت تتفرس فى وجهه، لم يكن يظن نفسه فتاكا لهذا الحد، ولو لم تكن الطماطم معه.. فرغم نظراتها تحرك ليكون فى انتظار الأتوبيس، قالت له السيدة بلهجة آمرة:

- هات الكيس.

قالت بدهشة وهو ينظر ناحية الأتوبيس القادم بأقصى سرعة:

- أى كيس؟

- كيس النقود الذى نشلته منى منذ لحظات أمام كشك الفاكهة، لا تنظر ناحية الأتوبيس فلن تستطيع الفرار بغنيمتك.

- عاد يزأر : ماهذا الهراء؟!

- طلع الكيس بالتى هى أحسن .. هذا أفضل لك.

كادت عيناه تخرجان من محجريهما خلف الأتوبيس الذى لم يكد يتوقف ثوان حتى تحرك تاركا شعبان يشيعه بحسرة وهو ينقل نظراته الزائغة بينه وبين وجه المرأة التى انشقت عنها الأرض وبين حقيبة الطماطم فى يده، رفع عقيرته فى سخط:

- أى كيس يا بنت الـ.....

كما هى العادة تجمع الناس حولهما فجأة.. كما لو كانوا أغصانا شيطانية أنبتتها الأرض فى غمضة عين، قالت السيدة للجميع :

- كان يقف بجوارى أمام كشك وزارة الزراعة للخضر والفاكهة.. بعد انصرافة بدأت أدلى للبائع بطلباتى ، عندما انتهى من إعدادها فتحت حقيبتى لكن لم أجد كيس النقود بداخلها. قطعا أخذه هذا الرجل، فحينما أصبحت أول طابور السيدات كان هو أول طابور الرجال.. وأحسست به يحتك بى متظاهرا أنه زحام الطابور هو الذى دفعه ناحيتى ولقد تأكدت أنه السارق عندما عبرت الشارع خلفه فلم يكد يرانى حتى أصابه الفزع وتأهب للفرار منى ليقفز فى الأتوبيس لو لا أنه اعترضته، انظروا نظراته الزائغة.

أغلب المتحلقين حوله، كان يبدو عليهم تصديق دعوى السيدة، رأى هو الاتهام فى عيونهم التى كانت تحاصره فى تحد ، دهش .. لماذا أخذ الجميع، صف السيدة، لا أحد منهم يعرفها أو يعرفه فلماذا؟! خرج من جلده ووقف بعيدا وسط الناس.. فإذا به يأخذ صفها مثلهم، كانت السيدة جميلة أنيقة جدا .. عليها سمات العظمة والفخامة، وهو زرى الهيئة والشعر والملابس لكن هذا ظلم .. صرخ:

- أقسم بالله العظيم ما أخذت كيسها ولا حتى رأيته، أما تتقين الله يا حرمة؟

قال رجل يرتدى نظارات طبية وتبدو عليه دلائل الرزانه:

- ربما سقط منها وأخذته أنت دون أن تعلم من تكون صاحبته.

ارتاح الكثيرون لكلام المتحدث اللبق وامّن أغلبهم عليه «صح» «جائز» «معقول» .. «احتمال».

كاد يلطم خديه ، كانت كلمات الرجل ناعمة.. رقيقة، «رقيقة» حتى لا تكاد تخفى الاتهام الذى حاول تغطيته بها. عاد يصيح :

- هذه المرأة الأفاقة تخدعكم.

صرخت المرأة : اخرس يا لص.

- بل أنت اللصة.. رغم هذا الطلاء الذى تلطخين به وجهك!

كادت تنفجر لكنها عادت وتماسكت:

- لنذهب إلى قسم البوليس، هناك سيخرجونه منه بالقوة، طالما يرفض الآن إخراجه بالذوق .. أنا واثقة ومتأكدة أنه معه، حيث أحسست بأصابعه لكن..

هزت كتفيها: هناك أناس خلقوا هكذا . لا يستريحون حتى ينالهم التهزئ!!

عاد الرجل، اللبق يواصل لعبة كلماته الرقيقة:

- أنت واثق أنك لم تأخذه .. وهى واثقة أنه معك .. وفى القسم سيفتشونك .. فلماذا لا..

سكت قليلا يبحث عن كلمة «رقيقة» لكن شعبان لم يكن فى حاجة إليها .. صاح:

- فقط هكذا؟ حسنا..

خلع جاكتته: ثم قميصة .. ثم بنطلونه.. وراح يرميها تباعا لجندى مطافىء تصادق مروره، وبدقة وعناية راح الاخير - وعلى مرأى من عشرات العيون - يفتش كل قطعة تصله .. يخرج كل ما فيها ويسلمها لشخص بجواره.

انتهت الجولة الأولى لصالح الرجل. لم يكن معه أى كيس حريمي.. وحافظة نقوده لم تكن تحوى سوى جنيه واحد وبعض الفكه، فانتفت حتى فكرة اخذه النقود الوفيرة التى كانت بكيس السيدة ثم التخلص منه بعد ذلك ارتد الجميع بأبصارهم اليه، رغم الرثاثة البادية على ملابسه الداخلية كدرجة لا تحتمل معها إخفاء شىء فيها .. تقدم الجندى إليه وأخذ يتحسسها، ثم رفع يده وهزها عدة مرات علامة التأكيد على خلوها.

المرأة أخذت بعض الشئ لكنها لم تنهزم تماما، مدت إصبعها فى اتجاه حقيبته المصنوعة من المشمع.. والتى كان قد أسندها إلى حائط مظلة المحطة، بحركة غريزية اختطف الحقيبة وضمها إليه، الطماطم.. كم كانت سعادته عندما اشتراها.. صفقة رابحة.. متواضعة نعم ولكن.. ما أندر ما عرض له من فرص، لم يكن ينوى حتى شراء حبة واحدة منها.. وكل ما كان يبغيه كيلو واحداً من الكوسة، بيد أن البائع وقد رأى انصراف الناس عن طماطمه لزيادة نضجها إلى درجة «التفعص».. قدر أنه لن يكتمل النهار حتى تكون قد تلفت تماما.. من ثم أعلن أن تسعيرة الطماطم اليوم ثمانون قرشا لكنه سيبيعها بأربعين فقط لمن يأخذ الكمية كلها.. شروة واحدة، وفكر شعبان.. لن تمضى غير شهور حتى يرتفع ثمن هذه المجنونة فيصل لأكثر من جنيهين، وفى هذه الفترة بالذات.. ويا للعجب.. تختفى الصلصة من السوق، كل عام يفاجئهم هذا الإشكال وتقول زوجته بندم «ليتنى صنعت بعض الصلصة.. آه لو تداركت ذلك»، قدر إذن أن ريحا طيبة ولا شك هى التى ساقته إلى كشك الخضر لحظة هذا الإعلان فبادر - قبل أن يقتنصها غيره - يعلن شراءها.. وفى نفسه يتخيل سعادة زوجته بهذه المفاجأة السارة التى لم تكن تتوقعها، يريدون الآن البحث داخلها.. لن تتحمل تقليبهم وعبث أيديهم، «ستتفعص» أكثر ولن تصل - من ثم - إلى المنزل إلا تالفة تماما «حامضة» تسبقها رائحتها، صاحت السيدة بنبرة ظافرة:

- انظروا كيف يرفض تفتيش الحقيبة؟ ألم أقل لكم إن كيسى بداخلها؟.

عرف الآن فقط لماذا أرسلت الأقدار هذه السيدة لتختاره هو بالذات.. وفى هذا الوقت بالذات، عز على الأقدار أن يفوز بشئ، ألم تتربص به من قبل لتجهض أى أمل حبلت له به الليالى؟!

لأول مرة راح يسترجع شريط حياته وهو يربط بين كل فشل وخيبة أمل وإحباط، كان متفوقا فى دراسته يبنى الآمال الكبار على مستقبل باهر عندما وقع ذلك الحادث المروع ليجد أكتافه وقد ناءت فجأة بحمل إعالة العديد من الشقيقات، لم يحضرهن هو إلى قبره!، البنت الوحيدة التى أحبها فى حياته لم تستطع انتظار انتهائه من تربية شقيقاته.. تزويجهن.. الواحدة تلو الأخرى، فارتبطت بفارس خال من المسئوليات، قريب لرئيسه يعمل فى الخارج بأجر كبير.. مع ذلك يقطع إعارته فجأة ويعود «ليلهف» الدرجة التي كان هذا الرئيس قد وعده بها قبل شهور!، المنزل الذى دفع فى خلو إحدى شققه تحويشة العمر.. تزيله البلدية لتوسع شارعا هاما.. إلخ الخ.

فى كل هذه المرات كان يصبر، لكنه بدأ يري وكأن شجرة الصبر قد سقطت عنها كافة أوراقها وفروعها، رغم أن صفقة الطماطم لم تكن في مثل أهمية تلك الأحداث الماضية ولكن.. القشة أيضا لم تكن بالغة الثقل، مع ذلك قصمت ظهر البعير، فأخيرا لم يكن ينقصه إلا هذا الموقف.. نصف عار وسط عيون تقتحمه لتعجم عوده وتقيسه طولا وعرضا وملؤها اتهام ظالم بجريمة زرية علي قارعة الطريق.

فجأة بدأت الدنيا تظلم.. كأن أحدا يغلق شيش النوافذ، كيف ذلك وهو في الشارع؟!، أحس بأن السماء تهبط شيئا فشيئا، وكلما أوغل داخل أحداث حياته كلما هبطت أكثر.. حتي كادت تلامس رأسه، مع ذلك لم يتوقف هبوطها، وأحس برأسه تنضغط تحت ثقل السماء الرهيب، لشدة الضغط أخذ جسمه ينبعج وبدأت رقبته تنحشر داخل جسمه حتي اختفت تماما وأصبح رأسه مركبا علي جسده مباشرة ككرتين وضعت صغراهما فوق الكبيرة. السماء مازالت تواصل هبوطها فلا تتحمل الكرة الصغرية ضغطها وتنغرس داخل الكبيرة ليصبح كرة واحدة، المتحلقون حوله بدأوا يشوطونه فيما بينهم.. بألسنتهم التي لم يعد يسمع أقوالها وإن رأي حركتها، رغم ما وصل إليه فالسماء لا تكف عن الهبوط.. الكرة تتبطط تماما ليصبح فطيرة.. يبدو أنها كانت لذيذة حيث راح الجميع يلتهمونها.. بنفس الألسنة التي كانت تشوط الكرة من قبل، لم يميز من أقوالهم جميعا - التي كانت تئز في أذنيه كطنين النحل - غير صوت السيدة.. التي كانت تقول بلهجة تقطر كبرياء وعجرفة وتسلطا:

- لابد أن أري ما بداخل هذه الحقيبة.

فجأة.. وجد يديه ترفعان الحقيبة إلي فوق.. أعلي من مستوي رأس السيدة، وفي ثوان كان يقلبها.. بكل محتوياتها.. فوق رأسها وشعرها ووجهها وصدرها وذراعيها.. وفستانها الناصع البياض، قلبها وهو يهدر:

- كى ترى ما بداخلها جيدا..!

عندئذ.. وعندئذ فقط.. بدأت السماء ترتفع.. وترتفع.. لتعود إلي مكانها الأول.

 

المصدر: احسان كمال - مجلة حواء
  • Currently 70/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
23 تصويتات / 909 مشاهدة

ساحة النقاش

hawaamagazine
مجلة حواء أعرق مجلة للمرأة والأسرة المصرية والعربية أسسها إيميل وشكرى زيدان عام 1955، وترأست تحريرها الكاتبة أمينة السعيد، ومن يوم تأسيسها تواكب المجلة قضايا وهموم المرأة والأسرة المصرية والعربية. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

19,462,208

رئيس مجلس الإدارة:

أحمد عمر


رئيسة التحرير:

سمر الدسوقي



الإشراف على الموقع : نهى عبدالعزيز