مات .. إطلالة سريعة فى وجهه دفعتنى إليها شقيقتى .. كأنى لم أر غير ابتسامته الذكية إياها .. ابتسامة تبدو لغيرى وغيره قمة التبسط والاحتواء .. مهما حاولت أن أهضمها على هذا النحو ؛ وجدتها كرباجا يلهب قفاى وينبه عقلى لمعان من شاكلة : تعلمين أنى أعرفك أكثر مما تعرفين نفسك .. كاذبة . مكابرة ، «فشخارة» فوق خواء .. جانبا سألت شقيقتى وأنا مرتعبة : أيبتسم وهو ميت ؟! .. همست : غير متأكدة .. ربما .. كثيرا ما قال لى «الدنيا أكبر مقلب شربه الإنسان» .. تركت شقيقتى وحدها معه وخرجت .. دائما كانت وحدها معه .. فى حجرة المعيشة تجلس أمى فى جانب بينما تجلس «عمتى» فى جانب آخر .. جلست فى ركن بعيد .. صمت .. شئ بداخلى كان يتمنى هذا اليوم بينما بقى إحساس آخر يناقضه ويلومه .. إحساس أوقفنى على وهمية تمنى المرئ أن يجد إنسانا يفهمه .. فالفاهم لإنسان على وجه الحقيقة هو أثقل عبء على نفسه .. يتمنى أن يتخلص منه لصالح مساحات من الكذب يحاضن بها دنياه ويعايش بها مخالطيه بما تهوى نفسه !! .. أتمنى لو أغمض عينى فيمر الوقت وينتهى كل شئ .. منذ شهور قليلة ولم تكن قد بدت أية مقدمات أو ملامح قالت لى شقيقتى :

- خطر لى أن أبى قد مات فظللت أبكى وأبكى بحرقة وأرى صورا كئيبة للحياة من غيره .. ولما عدت والتقيته فرحت وبكيت على صدره وأنا أقول له لا أتصور الحياة من غيرك .. ظننتها تسقط على موقفي منه أو تعطينى إشارة تحذيرية .. فقد طبع عليها بلاغته والقدرة على التعبير .. سخرت منها .. فالرجل وقد ناهز الستين مازال فى صورته ولياقته عند عمره فى الخامسة والأربعين !! .. آه .. وقت أن كان فى الخامسة والأربعين حقيقة تلقى منى أولى ضربات تحيزى لأمى .. كانت قد سربت إلى وعى الصغير أن غزارة ميله للعلاقة الحسية هى عماد الخلاف الدائم بينهما .. قررت أن انتصر لأمى .. أواجهه بما لم يستطع أحد أن يقوله فى وجهه :

- ماذا تريد منها وقد صرت رجلا عجوزا ؟! .. دعها تستريح !!..

.. دهش من قيلتى .. كانت ابتسامته الذكية .. ثم ملامته لأمى أن استخدمت ابنته سلاحا ضده شحنته بأباطيلها .. وحتى لومه لأمى أمامى وشقيقتى اعتبرته أنا محاولة منه للتجمل درجا على ما طبعته أمى فى نفسى من قدرة له على إقناع العالم كله بأكاذيبه دون أن يشك أحد فى مصداقيته !! .. وما كنت أدرى - بالطبع - عند أى حد من العمر يصير المرء عجوزا ليعتزل حاجاته الحسية !! .. ولا أدرك خطورة ما تلفظت به فى وجه أبى !! .. و.. صارت الواحدة منا - أنا وأمى - مدينة للأخرى بالثبات على موقفها .. فهى حريصة أمامى ألا تبدى لينا فى موقفها من أبى مهما تنوعت محاولاته لإرضائها واستمالتها لتعايش أسرى طبيعى .. وأنا مددت مظلة حمايتى لها إلى حد النوم بجوارها مكانه غير عابئة برد فعله الغاضب كلما عاد ليلا ووجدنى غير ممتثلة لأوامره بألا أنام فى غرفة نومه !!..

مازالوا يجهزونه لرحلته الأخيرة .. المسافة بين بيته وقبره .. نفر غير قليل توافدوا .. جيرانه .. أبناء عمومته .. أصدقاؤه .. وزوجى الذى لم ير أبى مطلقا فى غير صورة احتفظت بها فى بيتى ! .. يوم شرعنا فى الزواج عدت إلى أبى أرجوه أن يستقبله ليطلب يدى منه .. بادأنى بذات الابتسامة :

- معنى أن يتزوجك منى أنى أضمنك له .. وأنا لا أضمنك لأحد .. من لم تنجح ابنة لا تنجح زوجة .. عاندتى أبوتى دوما ولم تصونى حتى أمك .. حليفتك .. ركبت الجناح المأزوم من عقلها وجمحتى به وبها إلى طلاقها منى .. استفردت بها وحيدة تكتوين بنار أنانيتك وتبجحك .. فيما يتريديننى الآن ؟!..

- أتشرف بك !! .. ألست أبى ؟! ..

- أيشرفك أب تقاضينه بنفقة وتوقفينه أمام قاض بباطل تهمة التقصير فى حقك وراتبك يناهز دخله الشهرى بعد تعليم وفرصة عمل حققهما لك ؟! ..

تركت له فرصة أن يقول حقيقة دون أن أناقضها .. كنت فعلا فى حاجة ماسة لأتشرف به .. هيئته وحضوره الطاغى من شهرة نالها وسمعة أنا وأمى وحدنا عاندناها .. لكنى فشلت فى إثنائه عن موقفه .. ما حصدت غير أن عرانى أكثر أمام نفسى .. فاهم .. حاسم .. كيوم غلبت أمى إرادتى واصطحبتنى بعد أسبوع من الطلاق لتقنعه بالالتئام من جديد .. كان وشقيقتى مازالا يفترشان بضعة وسائد على الأرض بعد أن أخذنا كل أثاث وأجهزة الشقة .. جعلنا نشعر وكأننا نجلس فى قلبه .. وثقت أمى .. أغرت بالسكن الراقى الوسيع مكنتنا .. وفضفضت : نعود وسأمتنع عن كل فعل منى كان يؤذيك .. نعم .. قالتها له صريحة فى حضورى وشقيقتى وكأنها لا ترانا : أخطأت فى حقك كثيرا .. و.. ما حصدت غير أن قدمت اعترافا بعمدية تصرفاتها كان ينقصه .. فضلا عن وعد منه بأن يكون لها فيه عشم الأخت بأخيها من قناعة نهائية بأن ما يزيد عن العشرين سنة زواجا اثبت استحالة أن يتواءما زوجين !! .. يومها وحال انصرافنا دعانى ليهمس فى أذنى : أعرف حرصك على ألا يتضح عند أمك دورك فيما آل إليه حالها وحالنا .. لو عرفتك أمك معرفتى لك لخسرت أنت هنا وهناك .. اطمئنى ، أبدا لن تعرف عن طريقى .. و.. وجدتنى مدفوعة بخوفى لقطع أية أواصر باقية بينهما مستغلة جرح كبريائها من رفضه العودة للالتئام .. وكانت الدعوى ضده بنفقة لى أحد أهم مرتكزات قطيعــة نهائية!!..

بكيت بحرقة وهم يوارونه فى قبره .. لحظات جميعها فى صالحه .. أهو الموت يحيى الطيب من المواقف والصور ؟! .. صور تترى : سخاؤه مع طفولتى وشقيقتى .. تعلقنا الشديد به .. استشعار شقيقتى الذى لا يخيب بلحظة عودته من عمله رغم اختلاف مواعيده .. قولها بأنها تشتم رائحة حضوره من آخر الشارع !! .. قصص قبل النوم اليومية وشخوصها ابتداعه .. القرد «نأنأ» والأرنب النمرود .. اعتمادنا ذوقه الحضارى فى ملبسنا .. ضفائر شعورنا التى كان يجدلها لنا اقتصادا لوقت صباحات المدرسة .. وسائل الإيضاح المبهرة التى كان يساعدنا فى إعدادها لفصولنا .. حواراته معنا عن مرحلة المراهقة وقت كنا على أعتابها .. اصطباره لتعويدنا الانتظام فى الصلاة واكتساب عادة القراءة .. المسابقات الثقافية التى كنا نشارك فيها اعتمادا على ثقافته الواسعة وغزارة معلوماته ..

فى المساء .. بعد انصراف المعزين .. نحت بى شقيقتى فى حجرتها التى كانت حجرتنا صغارا .. قدمت لى مظروفا عبارة عن رسالة قصيرة ومبلغ كبير من المال !! .. قالت انهما أمانة تخصنى من أبي .. تركت المال وديعة لديها تحسبا لانتهازية زوجى وأخذت الرسالة مصحوبة بنصيحة منها عن أبينا بألا أطالعها فى حضور أحد على الإطلاق ..

وكأنى أرى أشياء وأتمعن معانى جديدة .. فلأول مرة أحاضن نصيحة من أبى فاحتفظ بالرسالة لخلوة بنفسى .. أتكتم ما دار بينى وبين شقيقتى رغم طنطنة زوجى - المتخرجة من حرفية نصاب يقرأ سيكولوجية فريسته - بضرورة استصدار إعلام وراثة لإظهار ما قد يكون أبي تركه وراءه .. ثقتى فى أمانة شقيقتى ترينها كما لو كنت لم أرها على حقيقتها من قبل .. ترينى فروقا شخصية بيننا مرجعها استظلالها بمظلة أبى .. رأيت أمى فى مواجهة شقيقتى وكأنها بادلتها أمومتها هيبة واحتراما ببنوة خجلة من تصاغرها !! .. وعيت لكونى مضيت أراهن دوما بالسهم الخاسر .. أن آخر فرصة لسهم وحيد كان بمكنته أن يبدل خسائرى أرباحا قد تلاشت بوفاة أبى قبل أن أعود تائبة بين يديه عن موقفي منه !!..

ألححت على زوجى أن يعدل مسار السيارة ويعود بى إلي بيت أبى .. تملكتنى رغبة عارمة فى أن أبيت مع شقيقتى وحدنا .. أنام فى حضنها .. لم يفلح ولا أمى فى إثنائى عن رغبتى .. ما أن دلفت من الباب حتى ارتميت فى حضنها .. يااه .. حضن أم وأب حقيقيين !! .. سهرنا حتى الفجر .. اسألها عنه .. قالت أنه كان يتلقى صدماتك بالصمت فيتملكه نوع من الدوار فى رأسه .. كان يحبك .. يدعو لك كل يوم في صلاته .. كان يقول لى أنه يقسم لله أنه قد سامحك تماما ليتوسل إليه أن يسامحك حتى يفلتك من أى عقوبة .. مع ذلك كان يحدثنى بأنك تدفعين كل يوم ثمنا غاليا لتجنيك .. غية ما كان يقلقه أن يضيعك عقلك ومكابرتك .. ظل يتحين لحظة تعودين بلا مكابرتك تحتضنيه .. وهكذا كانت معانى رسالته القصيرة إلى مع إلحاح بنصيحة بملازمة شقيقتى : «إذا أردت أن تجدينى فستجدينى فيها .. حضناً مخلصاً .. مشورة سديدة تعوضك ما فاتك» .. وتوقيع «بابا حبيبك ».

 

المصدر: مصلح محمد - مجلة حواء
  • Currently 60/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
20 تصويتات / 1133 مشاهدة

ساحة النقاش

hawaamagazine
مجلة حواء أعرق مجلة للمرأة والأسرة المصرية والعربية أسسها إيميل وشكرى زيدان عام 1955، وترأست تحريرها الكاتبة أمينة السعيد، ومن يوم تأسيسها تواكب المجلة قضايا وهموم المرأة والأسرة المصرية والعربية. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

23,017,171

رئيس مجلس الإدارة:

عمر أحمد سامى 


رئيسة التحرير:

سمر الدسوقي



الإشراف على الموقع : نهى عبدالعزيز