خزانة الهجران
كتبت : نجوي عبدالعزيز
دارت الأيام دورتها .. وكلما ازددنا فى البعاد كلما أوغل الشوق إليك يزرع أساطير الحنين فى عيون الساهرات ، قذفت بى الذكريات إلى الأيام الخوالى ، أيام كان الفؤاد يحيا بنبضك كلما هفا طيفك ، والأحلام تطير بنا كأغنيات القمر فتصدر السماء نجوما تتلألأ بأهازيج الفرح ، والأنسام تحوم حولنا .. وبين أطياف الذكريات ونيران البعاد وقفت الذكرى تتوسط موكبها المهيب بما تبقى لنا وبقى فينا .
عشت سنوات وجودك بيننا ولحظات رحيلك عن ديارنا ، وتمنيت أن أجدك فجأة تسامرنى وتهاتفنى، وتحكى لى عن سنوات معاناتك فى العمل ، والاغتراب عن ميدانك الحقيقى الذى نذرت نفسك له أجمل سنوات عمرك ، وعن غربتك فى أعمال لا تمت لتكوينك وشفافيتك بشىء أن تطمئن على إنسانيتى ، على مشاعرى التى رحلت معك ، يكبر صغارنا ويتخرجون من جامعاتهم، ازدهرت آمالهم شهادات علمية وجوائز حصدوها وزينت بها صدر البعاد عنك .... ولم يبق فى جعبة الأيام إلا وهج الحلم بعودتك ...... أعلم يقينا أنك لن تأتى ، لأن الأخرى احتلت منك القلب والوجدان ، فغادرت الحلم الطيب والوصل الجميل وغدرت بالوداد والعهد النبيل ..... ورغم أنك سرعان ما إحتوتك الغربة فكلفت بأخري وانشغلت بها عن مواصلة التحنان بيننا إلا أننى لم أتناول حياتنا معا بسوء ..... لم أقترف تلويث محبة رسخت وإزدانت بالأولاد ... عشت ومازلت أحكى لأولادك عنك عظمة الإنتماء لديك ، روعة الإنسان فيك ..... والذى غرفت من يديه دنيا الوئام .... إذا ما اشتد بى طنين العذاب ، عاتبك الشوق فينطلق من قلبك الود ويأتى طيفك محملاً بالسكينة ..... خجلك يتوارى وراء خوفك من إنتقام زوجة مطعونة بسيف الوفاء .... تأتى إلى موطنك، تجد أمك قد طرحت فيض أمومتها علىًّ وعلى أحفادها منك ..... يجافيك عطفها يعاتبك حبها ..... تحدثك عن الغدر ...... الوفاء ..... يصدع رأسك و يخيل إليك من ضجيج عتابها أنها تتجنى عليك ...... ولكن السنوات الطويلة التى قضيتها فى الخارج تنعم بقتل المحبة وتقف سدا بيننا ..... حتى كان يوما أثناء زيارتك لأمك .. رأتك ابنتك لم تعرفها ، رغم حرصى على وصول صورهم وإخبارهم إليك حيثما كنت ، أرتمت ابنتك بين ذراعيك معانقة تهمس لك : كم أنت رائع يا أبى .... إنك مثلما وصفتك أمى «المناضل الفدائى انتفضت روحك فى جسدك، امتقع وجهك ... بشجاعة ووضوح جاءك صوت أمك : أنت لم تسافر كنت دائما متواجداً بفضل أم الأولاد التى صنعت محبتك فى قلوب أولادك بإيثار ووفاء فاق الوصف .... حاولت لقائى تحججت لك بالأعذار ...... ثم تركت البيت ، أبيت مقابلتك.. رفضت الرجوع إليك ... أتى الأحباب يحاولون فك طلسم قلبى الذى رقد نائماً فى خزانة الهجران سنوات الحرمان .. قلت بثورة : تنتقم منى الآن بعد موت زوجتى ؟! انبرت أمك فى غضب وحدة تكيل لك التهم وتجاوز عنفها معك حدود أمومتها فطردتك من البيت ... توسط لك أحفادها «أولادنا» الذين لم يروك منذ أن كانوا براعم دافعوا عنك .. لحظتها إنسابت الدموع من الأعين .. قال الجميع نريد مثالاً ليصنع تمثالاً لأمنا ..
ساحة النقاش