الجسد الإنساني لغة .. فهو يسمو ويبتهل ويئن ويتألم ويثور وينقض .. ويتوسل ويخضع ويهتز ويميل.. في إيماءات واشراقات ويتوهج بالرغبة ويفيض بالخصوبة .. وفارق كبير بين بورتريه أو صورة شخصية للوجه الإنساني وبورتريه للجسد .. الأول ينتمي للتعبير أما الثاني فيبحث في الايقاع .
وفى تاريخ الفن أعمال وأعمال تمثل علامات فى الإبداع .. تناولت الجسد وجاءت صورة حقيقية وانعكاسا لواقع الحياة وتطور الزمن.
وليس أجمل من لوحة القديس مارتين والشحاذ فى هذا الاتجاه للفنان الاسبانى الجريكو «1541 - 1614» .. والتى يمتطى فيها القديس جوادا أبيض فى رداء أنيق بكول عريض .. بينما يقف الشحاذ عارياً لا يستره سوى قطعة قماش تدلت من رياش القديس.. واللوحة تعكس حالة رمزية جمع فيها الفنان بين المادى والمعنوى والحسى والمثالى وقد رسمها الجريكو من وحى لقاء القديس مارتين لشحاذ فى يوم مطير .. كانت تبرق فيه السماء وترعه .. حتى أنه شق معطفه بسيفه واحتفظ لنفسه بنصفه واعطى النصف الثانى للشحاذ.. وهكذا باح الجسد بالعوز والاحتياج.
ديجا وبيكاسو
ولا شك أن أعمال الفنان الفرنسى ديجا «1834 - 1917» تسمو بالجسد الانسانى فى رقة وأناقة خاصة فى لوحاته التى تجسد فراشات الباليه ومن بينها لوحته الشهيرة «النجمة» التى تتألق فيها راقصة البالية سابحة فى النور .. يكاد جسدها يطير من فرط الرشاقة مع تلك الزهور التى تتوقد فى الرأس وعلى الثوب الأبيض وللفنان جوجان «1840 - 1903» لوحة شهيرة تأثر فيها بإيقاع القن الفرعونى .. لوحة «لن نذهب إلى السوق اليوم» تصور خمس فتيات من تاهيتى على مقعد طويل فى حضن الطبيعة فى إيماءات ووجوه معظمها جانبية يضئ فيها الجسد وتتحرك الأذرع فى إشارة واحدة بتلك الملابس التى تذكرنا برداء الفراعنة .
وقد باح الجسد فى أعمال عديدة لبيكاسو «1881 - 1973» مثل لوحة الموسيقار العجوز التى تنتمى لمرحلته الزرقاء .. يطل فيها الموسيقار الأعمى قابضا على الجيتار بجسده وأطرافه النحيلة وكأن الجسد هنا هو الذى يعزف لحن الحزن والشقاء.
وله لوحة بديعة بعنوان «التزين» صور فيها عارية خارجة من الحمام وأمامها وصيفتها برداء ازرق تحمل لها المرآة .. وهى تتزين واناملها تقيصن على خصلات شعرها من أعلى .
حواء تتفوق
فى قصر الفنون بأرض الأوبرا جاء يعرض «الجسد الانسانى» بمشاركة عشرات الفنانين «مئة فنان وفنانة» .. وقد تنوعت فيه اللمسة وامتد من التصوير والرسم إلى النحت ومن الواقعية والتعبيرية إلى التلخيص الشديد وحتى التجريد .. وهناك أعمال تنتمى لفنون ما بعد الحداثة .. استخدم فيها الوسائط المتعددة.
وقد تنوعت أعمال الفنانات وتميزت أكثر باتساع المساحة والصرحية كما عكست المعنى الحقيقى للفن المفاهيمى الذى يعتمد على أفكار .. وهى تعد تشخيصا لمعنى «الفيمينزم آرت» أو الفن المرتبط بخصوصيات المرأة فيما يتعلق باحترام المشاعر والأحاسيس والرغبات والأحلام وأيضاً الحقوق فى موازرة الشريك أو الآخر .
- وبوعى شديد تجسد الفنانة هالة عامر حلم بنات حواء فى الزواج من خلال تلك اللوحة التى تجسد فتاة حسناء جالسة على كرسى كلاسيك تاهت معالمه ويبدو جزء من جسدها من أعلى فى لمحة جاذبية وبجوارها كرسى أنيق غنى بالتفاصيل كرسى خال فى انتظار العريس .. فى انتظار الذى يأتى ولا يأتى.
وتستخدم الفنانة صباح نعيم وسائط كولاجية «قص ولصق» تصور سبعة شخوص يجلسون على مقعد يوحى بمحطة أتوبيس والأجساد هنا مثقلة بالتعب.. إنه الجسد الذى يذوب شقاء مع تلك الألوان الرمادية الباردة.
ومن خلال ايقاع الفنان سمير فؤاد الذى يهتز فيه الجسد يصور طفلا عارياً مسكونا بالخوف من المستقبل ومواجهة الحياة خاصة حينما يكبر الرأس ويتضاءل الجسد.
ويهمس الجسد العارى للمرأة بموسيقى الاستدارات والانحناءات فى ثلاثية الفنانة نجلاء سمير التى تقدم من خلالها عالما من الاضواء والظلال .. وتشكل ملاحم من الايماءات يصحو فيها الجسد ويتحدث ويهمس ويغفو فى صمت وإيهام .. إنه الجسد الملئ بالأسرار.
قوة الجسد
وفى مدخل قصر الفنون تصدر تمثال صرحى ضخم للفنان عبد المجيد الفقى يمثل صورة لقوة الجسد حيث يتسع الصدر من أعلى وهو ملثم بعباءة تتدلى على كتفه والتشكيل فى مجمله حافل بتنوع السطوح والفراغات مع الحركة الدائرية للعباءة التى تعكس لاستمرار اليقظة وهو يذكرنا بحارس الحقول لمثال مصر محتار مع اختلاف اللمسة والتعبير والاداء.
وتتألق أعمال الفنان أحمد نوار بين التجريد والتشخيص فى سبع لوحات صغيرة تصور جسد المرأة فى ايقاعات عديدة .. عاريات يتوهجن بالأبيض والاسود.. تمثل دراسات ينساب فيها الجسد بالمعانى من الصمت والسكون إلى الحركة والانسياب والرشاقة.
ثم ينتقل بنا نوار فى عمل آخر ينتمى لعالمه الميتافيزيقى الكونى الذى يجمع بين الايقاع الهندسى واطياف من الجسد الانسانى الذى أصبح كائنا فضائيا تخلص من كثافة المادة واسر الجاذبية الارضية.
وبعد فترة انقطاع عن العرض نلتقى مع اعمال الفنان صلاح عنانى التى تتميز بالطرافة والسخرية والمبالغات التعبيرية وهو يصور فى لوحة بائع الخبز على دراجة وفى الأخرى عبد الروتين يدق بأطرافه النحيلة على «آلة كاتبة» .. وقد تفوق النحت لديه من خلال تمثال من الاسود الابنوي لشيخ مسن .. وأخر يجسد نجما من نجوم السيرك أوالسار يقدم فقرات شعبية...
وفى شاعرية وأناقة شديدة ينساب الجسد فى ثلاث لوحات للفنانة إيمان اسامة مع زهور ورود تجعل من الجسد الانثوى مساحة من السمو والاشراق .
وقدم الفنان خالد حافظ الجسد الانسانى فى لوحتين بمساحة رفيعة من التعبير البليغ مع تنوع الوسائط الأولى يمتد بينما جسد المرأة بهيئة كوبرى يبدأ من الساق وينتهى عند الرأس يضم أسفله أربعة رسوم تشريحية للرجل مع امرأة حسناء تتربع على اليسار.
أما لوحة حافظ الثانية فهى تجسد النموذج المثالى لقوة وحيوية الجسد جسد الرجل فى مواجهة الآلة الجهنمية للحرب وعلى خلفية من الأحمر النارى .
تحية إلى ايقاع تميز بالتنوع والثراء يشدو فيه الجسد الانسانى.
ساحة النقاش