كنا نتوقع منذ أسبوعين أن يناقش مجلس الامة موضوع تنظيم الاسرة.. و واضح بالطبع أن الموضوع له جانبان متساويان فى قيمتهما، أحدهما يتناول الدعوة الى تحديد النسل و تهيئة الاسباب لنجاحها، حماية لمواردنا من أن يدمرها الانفجار السكانى الهائل فى بلادنا.. فمع أن حكومتنا لا تكف عن مضاعفة هذه الموارد، غير أن الزيادة المطردة فى عدد أفراد الشعب لا تكف هى الاخرى عن التهام كل زيادة. مما يقفنا فى مكاننا،و يحول دون الارتقاء بالمستوى المعيشى الى المراتب الانسانية التى نتمناها لاهل بلادنا....

    و هذا الجانب من موضوع تنظيم الاسرة بالغ الخطورة،و من واجبنا كمواطنين صالحين أن نوليه غاية اهتمامنا،و لا نبخل عليه بجهدنا مهما عظم.
    و لكنه ليس الجانب الوحيد، فهناك قضية أخرى لاتقل خطورة و أهمية،و هى قضية الاحوال الشخصية، التى لم يبق من شك فى أن تشريعاتها لم تعد بصورتها الراهنة قادرة على تلبية مطالب حياتنا المتجددة، الامر الذى ترتب عليه حرمان الاسرة العربية من الاستفرار،و زعزع كيان هذه الخلية الحيوية فى جسد الامة زعزتة عطلتها عن القيام بواجبها الصحيح فى بناء مجتمعنا الاشتراكى....

    و كان مجلس الامة قد ادخل موضوع تنظيم الاسرة يشطريه فى جدول أعماله و حدد لمناقشته تاريخا معينا،و لكن الضرورة قضت بتأجيله الى ما بعد عطلة عيد الفطر، كى يتسنى للنواب أن يتوسعوا فى دراسته قبل طرحه لمناقشته....

    و لقد سررت لهذا التأجيل و رحبت به، ذلك أننى اقتنعت بعد خبرة و تجربة، أن الجانب المتعلق بالاحوال الشخصية مازال غامضا فى أذهان الكثيرين،و من بين خيرة رجالنا المثقفين من لم تسنح لهم الفرصة بعد لفهمه على حقيقته.. فبعضهم يتصوره ثورة على الدين،و بعضهم يظنها قضية نسائية خالصة لا يقصد بها سوى خدمة المرأة و تقوية مركزها على حساب قوامه الرجل و حقوقه الخلقية الكريمة التى يهم المجتمع الاسلامى أن يحتفظ بها طابعا مميزا له.

    و يسبب هذه الاوهام الخاطئة التى لا تستند الى أدنى أساس من الصحة، تجد فى بلادنا عددا لايستهان به من الرجال – فيهم من يحسنون تقدير مسئولياتهم العائلية ولا يمكن أن يفكروا فى الطلاق أو التعدد يقفون من قضية اصلاح التشريعات فى حذر قد يؤدى الى خذلان الجهود المبذولة فى تحقيقها...

    و أنا شخصيا أومن بالديمقراطية،و أعرف أن الاغلبية فى أى مجتمع سليم يجب أن يكون لها الرأى الاخير فى شئون حياتها و أنها اذا اجتمعت على اتجاه من الاتجاهات، فمن واجب الاقلية أن ترضخ له ولو مكرهة.. انما بشرط أن تكون الاغلبية واعية مسئولة، تصدر حكمها عن فهم ومعرفة و ايمان و اقتناع،لا عن عاطفية أو عنصرية أو تأثر بأوهام و مخاوف كاذبة تجول فى الاذهان.

حجج المعارضين
    و الذى أراه امامى فى حجج المعارضين لقضية اصلاح تشريعات الاسرة، أنهم غير ملمين بحقائق الموضوع و أصوله،و قد ذهبوا فى ذلك ضحية لما يقرأونه و يسمعونه من أقوال لا تستند الى الصحة و الدقة...

    فبعض من تتاح فرصة مواجهة الناس بآرائهم المعارضة، يلجأون فى كسب التأييد الى النواحى الكفيلة باثارة المشاعر العامة، مثل التحذير من المساس بالدين، أو التنبيه الى أخطار الانحلال الخلقى الذى يزعمون أنه سيأتى نتيجة لاصلاح تشريعات الاسرة... و كثيرا ما يستندون فى تأييد دعواهم الى احصاءات غير رسمية و معلومات غير صحيحة...

    و مثل هذا الاتجاه فى رأيى أخطر ما يكون على حياة أمتنا الناهضة...

    فما لا شك فيه أننا أمة حرمت لظروف فوق أرادتها من فرصة الاحتفاظ بأمجادها القديمة، أو بناء كيانها على أسـس صحيحة فالاستعمار و الاستغلال و احتكار الثروات دمر قواها و أضعف قدراتها الطيبة،و قد ذهبنا ضحية الاوضاع الفاسدة التى تحكمت فينا على مضى الاجيال... و لكن وضعنا تغير الان بعد أن حررنا بلادنا من سطوة المستعمر و نقلنا أمرها الى يد أبنائها،و أصبح لزاما علينا أن نتدارك بسرعة مافاتنا،و نعمل بكل قوانا على التعجيل بعلاج أخطاء الماضى،و أعادة تخطيط حياتنا بالصورة المتمشية مع روح العصر و دواعى التحضر...

    و أى تقصير فى أداء هذه الرسالة يعتبر خيانة للوطن...
    و أى محاولة ترمى الى تعطيل الاصلاح عن طريق التشكيك فى حقيقة اغراضه، لا يضيع فقط على الوطن فرصة رد اعتباره، بل ينحرف أيضا بتفكير الرأى العام عن الطريق السوى الذى لا يمكنأن تتم بغيره نهضة.

    أننا الان فى وضع يتطلب من قادة الرأى العام منتهى الدقة و الامانة فى كل كلمة يقولونها للناس،و فى كل حجة يتقدمون بها اليهم.

    و لكن بعضنا ينسى مع الاسف هذه الحقيقة الهامة،و منا من يتعمد اثارة الجماهير بمعلومات مشوهة. و بهذا أو ذاك نرتكب فى حق الوطن فلسفة لا تغتفر..

صور للتشويه
    و عندى صور متعددة لهذه المحاولات المتكررة التى ترمى الى تشويه القضية.. ففى أحدى الندوات التى اشتركت فيها اخيرا بدأ متحدث منا كلامه بتحذير جمهور المستمعين من الدعوة الى التطوير زاعما أن الدين أقدس و أعظم من أن يمسه التطوير...

    و بهذا صور للناس أننا نقصد الاساءة الى الاسلام،و بث الالغام فى الطريق بأسلوب يصعب التغلب عليه.

    و فى ندوة أخرى لم يجد المتحدث المعارض سبيلا الى تفنيد حججا القوية الا اعلان آخر احصاءات.. لاولاد الحرام فى بريطانيا.. و كيف أن عددهم بلغ فى السنوات الاخيرة ثلث المواليد سنويا!! و بهذه الطريقة غير المباشرة، أظهرنا أمام الجمهور و كأننا دعاة للانحلال الخلقى،و صبغ قضيتنا المبينة على الخير كل الخير بلون الشر و رائحته الكريهة.

    و فى مجال ثالث سمعت أحد المسئولين يدلى فى مناقشة تليفزيونية باحصاءات محرفة تظهر المشاكل الحيوية القائمة فى صورة أقل من حقيقتها ألف مرة،و من ثم يجعل الكلام فيها غير جدير بالاهتمام.

    و عندى عشرات الامثلة لهذه تالحقائق، فى سبيل تثبيت أقدام الرجعية بالحيلولة دون تطوير التشريعات مع مقتضيات الزمن و مطالب الحياة.

    و كل ما أتمناه من الله ألا تكون هذه المحاولات متعمدة.

    و لكن ماذا أقول فيها غير ذلك و أبسط قواعد الفهم تؤكد أن المحاولات التى ترمى الى تسوية تعاليم الدين شئ و أساليب ممارسة الحقوق الشرعية شئ آخر.. و أننا لولا ايماننا العظيم يسمو ديننا و قداسته ماطالبنا بتطوير الاساليب لاعادة أحكام حياتنا الى روح الاسلام الاصيل.. هذا الروح الذى غابت معانيه الفلسفية عن أذهان الغالبية بسبب شيوع الجهل بيننا، ثم سيطرة الجمود على تفكيرنا بعمد أن اغلق باب الاجتهاد،و اكتفى مشرعونا بتراث زملائهم السابقين... و لقد أدى جمود الفكر الى ابقاء الاوضاع على حالها خلال السنوات الالف الاخيرة، مما ابتعد بأحكام حياتنا عن مطالب الزمن و ضروراته، فتخلفنا عن ركب الحضارة،و أسأنا الى سمعة عقيدتنا فى تقدير الشعوب القوية المتحضرة،و بذلك كنا السبب فيما وقع على الاسلام ظلم لا يستحقه.

    و نحن حين تطالب بتعديل أساليب ممارسة الطلاق و التعدد و بيت الطاعة، أنما نريد العودة الى أحضان الاسلام الصحيح الذى نص على أن الطلاق أبغض الحلال عند الله،و وضع التعدد كعلاج لا يستعان به الا لضرورة،و جعل من العلاقة الزوجية أقوى سبيل الى التراحم و التعاطف.. و مع ذلك فقد نسى الناس فى غمرة ضعفهم هذه الحقائق الناصعة،و أسرفوا الى حد الاسفاف فى استغلال حقوقهم، متناسين ما يقال هذه الحقوق من قيود الواجبات حتى ارتفعت نسبة الطلاق عندنا من العالم بأجمعه،و ضربنا الرقم القياسى فى زعزعة اركان الاسرة، التى لا تقوم لاى مجتمع قائمة ما لم تكن هذه الوحدة مدعمة بأسباب الحماية الكافية.

    و نحن حين نطالب بتعديل أساليب ممارسة الحقوق الشرعية لا نقصد ولا نريد أن نتحيز للمرأة.. فهذه القضية لا شأن لها لا بالمرأة ولا بالرجل.. أنما هى قضية المجتمع بأجمعه.. قضية الرغبة فى تدعيم الاسـس التى تقوم عليها الخلية الاولى فى جسد الشعب و تسليحها بالمقومات الكفيلة بعلاج ما اصابها من اختلال لا يمكن انكاره الا أذا جاز لنا أن ننكر وجود الشمس فى كبد السماء عند الظهر.. لكى تستطيع أن تسترد قواها التى ارهقها التخلف،و تصبح قادرة على القيام بدورها الحقيقى فى اعادة بناء حياتنا.. و اذا كان قد تصادف أن المرأة طرف فى الخصومة، فالاهم من ذلك هم الابناء و البنات.. عماد الاجيال الصاعدة.. الذين يعذبهم قلق الحياة الاسرية فى بلادهم،و يدمر التشريد اخلاقهم و نفسياتهم و الدعوة الى حماية الاسرة من أمراضها التشريعية الحالية، هى دعوة أخلاقية من الدرجة الاولى.. فنحن نريد للبيت أن يكون مدرسة لا تبارى فى أنبل المبادئ و اكرمها. و هو مالا يمكن أن يتحقق الا بصفاء الجو العائلى،و ضمان حمايته من عبث الشهوات و النزوات و الحماقات.. التى تلعب الدور الاكبر فى رفع نسبة الطلاق عندنا الى رقم قياسى فى العالم بأجمعه.

    فهل بالله عليكم تتفق هذه الحقائق الصريحة مع نسبة أولاد الحرام فى بريطانيا؟

    هل يا ترى نحن نطالب بالسلامة و الاستقرار أو نطالب بالرقص و المجون و الاباحية؟ و مادخل أولاد الحرام فى بريطانيا بنا؟ ثم ما هو السبب فى وجودهم هناك؟ أهو تعدد الزوجات الذى يحمينا من هذه الكارثة؟ هل الطلاق – لا وهى الاسباب – هو الذى يمنع وجود هذه الظاهرة عندنا؟


    أن أبسط تفكير سليم. يؤكد أن أسباب وجود أولاد الحرام فى بريطانيا أو غيرها يعود الى طبيعة النظام الاجتماعى الذى اختلفت مفاهيم الاخلاق فيه عن مفاهيمنا.. فنحن كبلد اسلامى شرقى نتمسك بمبادئ العفة،و لقد اصبح هذا تقليدا رئيسيا لحياتنا و لسوف نحتفظ به مادمنا شرقيين مسلمين.. فى حين أنهم ينظرون الى الحياة من زاوية أخرى،و تقديرهم لمبادئ الاخلاق يختلف اختلافا جذريا عنا.
    ان تقوية الاسرة بتطوير تشريعاتها هو صمام الامان من الانحراف...

    و يكفى لتأكيد ذلك أن تعود الى دراسات وزارة الشئون لنجد أن البحوث التى أجريت فى عهود متعاقبة اتفقت على أن حالات البغاء و الدعرة و التشرد تعود فى اصلها الى ما أصاب البيت من اختلال بسبب الطلاق و تعدد الزوجات.

    اننى مازلت أومن بأن كلمة الحق هى العليا.. و سيظل هذا هو مبدؤنا، مادمنا نخلص فى حب وطننا،ولا نخاف الجهد فى سبيل تحقيق مصالحه.

المصدر: أمينة السعيد - مجلة حواء

ساحة النقاش

hawaamagazine
مجلة حواء أعرق مجلة للمرأة والأسرة المصرية والعربية أسسها إيميل وشكرى زيدان عام 1955، وترأست تحريرها الكاتبة أمينة السعيد، ومن يوم تأسيسها تواكب المجلة قضايا وهموم المرأة والأسرة المصرية والعربية. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

19,365,750

رئيس مجلس الإدارة:

أحمد عمر


رئيسة التحرير:

سمر الدسوقي



الإشراف على الموقع : نهى عبدالعزيز