الشيــك
بقلم :مديحة ابوزيد
قبل أن ألحق بمكتبى فى الصباح، التف حولى عشرات المستفيدين، راح كل يسأل عن طلبه، حيث جاءوا منأماكن بعيدة، سيراً على الأقدام، أو محمولين فوق دواب.
أكوام من الورق، تكدست أمامى، فى تلك الحجرة الضيقة، شعرت بالإختناق، أفقت على صوت العامل وهو يناولنى مظروفاً:
- هذا يخص سيادتك.
أمسكت بالخطاب بيد مرتعشة، لحظة أن وقعت عينى على الطور، انتفضت على الفور، وتأهبت لمغادرة المبنى، ناسية هؤلاء الذين تحملوا مشقةالطريقة وجاءوا منالعزب والكفور، تدفعهم الحاجة الملحة.
بعض مضى وقت ما، استغرقه الميكروباص رغم كثرة المطبات على الطريق الزراعى والمخلفات، وصلت لقسم الحسابات بالإدارة، اقتربت من إحدى الموظفات، كانت مشغولة بإعداد الشاى، سألتها بينما أناولها الخطاب:
- الشيك الخاص بمرتبى.
ألقت نظرة خاطفة ثم أجابت بلا مبالاة..
- حررت استمارة، وأرسلت لمجلس المدينة.
مسنى الذهول، فما بقى من نقود لا يفى بضروريات الحياة، وسألت بضيق:
- لماذا أرسلت إلى هناك؟
- أوامر الرؤساء.
قالتها بلهجة سريعة، ثم راحت تحتسى الشاى فى قسم الحسابات بالمجلس. تلك الصالة الواسعة جداً والمزدحمة بالموظفين، وقفت تائهة، حائرة، تكاد الضوضاء تصم أذنى حيث أصوات الموظفين من هواة حل الكلمات المتقاطعة، رقصات ملاعق الشاى فى الأكواب، أدوات الطعام المتبقية من الإفطار والمتناثرة هنا وهناك، أحاديث الموظفات حول ما دار مع أزواجهن، رنين الآلات الكاتبة.
بعد وقت ما شعر بى أحدهم:
- طلبات الأنسة؟
- لى استمارة بمرتب هذا الشهر، وقد مضى الأسبوع الأول، جئت من سفر بعيد، وأتمنى لو ألحق البنك.
وضعت موظفة كوب الشاى جانباً ثم قالت:
- المسئول عن إدارتكم غادر المكتب.
غلى الدم فى عروقى، وصرخت:
- هذه فوضى.
اقتربت إحداهن، ربتت على كتفى فى محاولة لتهدئتى، ناولتنى كوباً من الشاى وسألتنى الانتظار قليلاً، ثم صاحت بصوت عال:
- أين سكرتيرة رئيس الحسابات، هى الوحيدة المسئولة.
ألقيت بجسدى على مقعد قريب، توقف موظف عن حل الكلمات المتقاطعة، وألقى بالجريدة جانباِ وقال:
- إبحثوا عنها فى السوق ولا فـى طابور العيش.
ازداد انفعالى بالغضب، فما تبقى من أمل فى صرف الشيك يتلاشى، بعد قليل عادت السكرتيرة، ألقت بحملها جانباً ثم راحت تبحث فى درج مكتبها لحظات وتنهدت بصعوبة..
- الشيك عاد للإدارة للإستيفاء.
شبح اليأس مخيف، يكبلنى بقيوده، حاولت الفكاك وانطلقت أعدو فى الطريق، فوقت العمل لم ينته بعد، صعدت درجات السلم، لمحنى أحد الموظفين، قال على الفور:
- الشيك الخاص بك، أرسل ضمن شيكات أخرى إلى البوسطة.
على بعد خطوات من شارع السوق، انطلقت وسط الزحام، فاليوم سوق الأربعاء وقد تكدس بعشرات الباعة من كل صنف، بالإضافة لكثرة الدواب وعربات الكارو والباعة الجائلين.
تذكرت ما حدث بالأمس:
لحظة قدمت التماساً لأحد المسئولين بالوزارة أناشده بتعديل قرار نقلى وعودتى للمدينة، حاول إقناعى بالبقاء قائلاً:
- الريف هنا جميل بل وقطعة من الجنة ولن أواجه أية مشاكل، وكل شيء موجود بوفرة من مأكل وملبس ومسكن، وسيصلنى المرتب أول كل شهر، بالإضافة للمكافآت والخطابات والبدلات والحوافز.
أفقت على مشهد مثير:
فى ركن ما لمحت أحد الموظفين، يفحص رزمة من الخطابات، سألته على الفور:
- الشيك الخاص بمرتبى حول من الإدارة الاجتماعية.
أجاب وهو يشير إلى مكتب كبير بالداخل:
- إدخلى للرئيس فهو المسئول عن حل هذه المشكلات.
اقتربت وإذا بى أرى رجلاً بديناً، يتناول وجبة مكونة من الفول والفلافل والجبن القديم والخس والمخللات، وقد ابتلعت معظم مساحة المكتب والتصقت بها الأوراق والأظرف.
تسرب الخوف إلى نفسى وأدركت لحظتها أن الشيك تاه فى الزحام وربما أصابه التلف وفى كلتا الحالتين لن يصرف.
أوشك الوقت على الإنتهاء، اقتربت أكثر وقلبى يدق بسرعة وصرخة بداخلى تود لو تنفجر..
- لهذه الدرجة يعبثون بمصالح الناس.
كتمت غيظى ولزمت الصمت.
قال الموظف المساعد:
- لا تشغلى بالك، سيدلك على الشيك فور انتهائه من الإفطار.
- لا أعتقد أنه سينتهى، أرجوك، ابحث بنفسك لأنى مضطرة للسفر اليوم، حيث أعمل فى قرية بعيدة.
- إطمئنى، البنك يعمل حتى الثانية والنصف.
ثم أخرج من جيب سترته ساعة مربوطة بسلسلة ثم واصل:
- الساعة الآن الواحدة، وكلها فركة كعب وتجدين نفسك أمامه.
التهم المدير ما بقى من طعام، وراح يمضغه بتقزز، ثم نهض بعصوبة وقال وهو يلهث، والعرق يتصبب من جبهته:
- الشاى، وإياك تنسى الهانم، ولا اقولك، نظف المكتب أولاً.
اقترب الموظف من أحد الدواليب، سحب بعض الأوراق، ثم مسح ما على المكتب من بقايا طعام، وبدأ المدير يبحث بنفسه.
تسربت الطمأنينة إلى نفسى ثم خاب ظنى لحظة أن سألنى، وكدت أجن، صرخت بانفعال شديد:
- الشيك الخاص بمرتبى.
اعتدل فى جلسته، راح يدق بكف يده على كرشه:
- الشاى ياابنى، الأكل حامى، بطنى تكاف تنفجر، ولا تنسى الشيك الخاص بالهانم، ابحث عنه فى دفتر الوارد.
بعد لحظات، عاد الموظف وهو يحمل أكواب الشاى ويقول بضيق:
- لا يوجد ياسعادة البيه، لم نتعود استلام شيكات من الإدارة.
لاحقه المدير بعصبية:
- ترسل عندما يتأخر الموظف عن الحضور لاستلامها أجبته بانفعال شديد:
- لم أتأخر وجئت فى الموعد.
- سألنى وهو يحتسى الشاى بصوت مسموع ويتجشأ:
- أرجو ياابنتى العودة للإدارة، وابحثى عنه بدقة، ربما نسيه أحدهم فى أحد الأدراج المهملة.
تسربت كلماته كالريح العاصف إلى أذنى فأصابتنى بالصمم وكأنما التف حبل حول رقبتى وكاد يخنقنى.
ساحة النقاش