بقلـــم : د. داليا مجدي عبد الغني
التنازلات هي عُنوان التضحية الأولى في أي علاقة، بالرغم من أن مُصطلح "التنازل" غير مُحبذ لدى الكثيرين، ولو تعمقنا فيه سنجد أنه يعني أن الكِرف بدأ ينزل، أي أنه مُستعد للنزول والانخفاض والتقليل، ولكن لا خلاف على أن العلاقات لا تُبنى ولا تنجح ولا تستمر إلا إذا كان هناك بعض من التنازلات المُقدمة من الجميع، بُغية الوصول إلى نقطة التقاء يتفق عليها كل الأطراف.
والتنازلات الصحيحة لا تتأتى إلى بعد المرور بمرحلة المُفاوضاتحتى تكون مدروسة وفي إطار سليم ومنطقي، ويشترط كذلك أن تكون مُتبادلة بمعنى أن كل طرف يُقدم بعض التنازلات بُغية الوصول إلى الطرف الآخر بهدف استرضائه وإلا تحولت إلى عقد إذعانفيه طرف قوي يُمْلي كافة الشروط وعلى الطرف الآخر تقبل بُنود العقد أو تلك الشروط جبرًا دون مُحاولة منه لمُناقشتها أو الاعتراض عليها، والأهم من هذا وذاك أنه لابد أن يُلاقي التنازل تقديرًا من الطرف الآخر، حتى يكون له قيمة، فالتنازل مثل التبرع أو المنحة لو لم يجد التقدير والاحترام تحول إلى حق مُكتسب للطرف الآخر، ومن هنا سينال هذا التنازل من كرامة المُتنازِل.
وعليه، فهل نختلف على أن التنازلات هي معيار نجاح العلاقات الزوجية؟! أظن أن هذا أمر مُسلم به ولا خلاف عليه ولا مراء فيه، ولكن أي طرف من الطرفين يكون أكثر تنازلاً للطرف الآخر، أعتقد أن الزوجة كانت دائمًا هي صاحبة الدور الأكبر في تقديم التنازلات وهذا لعدة أسباب، ويأتي على رأس قائمة الأسباب أن هذه هي الطبيعة البشرية الأنثوية، فالمرأة بطبيعتها لديها القُدرة على التحمل بحكم تكوينهاالعاطفي، فهي لديها غريزة الأمومة منذ وعيها بالحياة، بدليل أن أول دُمية تستثير مشاعرها هي العروسة، فتبدأ الطفلة في تمثيل دور الأم مع دُميتها، وأيضًا لأنها تُحاول إضفاء حالة من الدفء والسكينة في منزلها بُغية الحصول على المشاعر والأحاسيس الرقيقة من زوجها، لذا لا تتوانى عن تقديم التنازلات من أجل إرضاء عاطفتها الجياشة، غير أن الزوج بطبيعته يستبدل أمه بزوجته، والواقع أنه اعتاد على تضحيات الأم طيلة حياته لذا ينتظر أن تستمر تلك التضحيات من خلال زوجته التي حلت محل الأم، علاوة على أن الزوجة دون أن تشعر تُحاول مُحاكاة أسلوب والدتها مع والدها، وعليه فتبدأ في تقديم كافة التضحيات من أجل استمرارية حياتها الأسرية مثلما كانت تفعل والدتها.
وكل ما سبق لا غُبار عليه، فهوأمر طبيعي ومنطقي للغاية، ومُفترض لأقصى درجة، طالما أنه يحدث في إطار من الاحترام المُتبادل، وبكامل إرادة الزوجة، وبتقدير شديد من الزوج، ولكن أن يكون سبب هذا التنازل هو قناعة الزوج بأن هذا أمر مُفترضمن زوجته، وأنه حق مُكتسب له، وأنها ليس لديها بدائل سوى هذا الأمر، لأنه هو الرجل وصاحب الكلمة الأولى والأخيرة بحكم طبيعته الذكورية، فهذا هو المرفوض، لأن التنازلات في تلك الحالة ستتحول إلى إذلالات، فالمرأة عندما تتنازل عن أشياء مهمة بالنسبة لها، تكون مثل الإنسان الذي يقتطع جزءً من جسده، فلا أحد يشعر بحجم الألم الذي ينتابها في تلك اللحظة، فما أصعب أن تتنازل عن أحلامها الشخصية كسيدة عاملة ناجحة، أو سيدة مُجتمع لامعة، أو حتى حقها في أن تقضي بعض الوقت بصحبة صديقاتها مثلما يفعل زوجها، حتى تُجدد خلايا حياتها اليومية، أو عندما ترفض إعارة كانت ستُغير من مجرى حياتها العملية والمادية من أجل استقرار أسرتها، أو حينما تقضي ساعات طويلة بمفردها في انتظار زوجها، رغم أنه يقضي تلك الأوقات مع أصدقائه ولا يعبأ بوحدتها وضجرها ومللها.
فكل تلك التنازلات تنال من الزوجة وتُشعرها أنها أصبحت مُهمشة وضعيفة، وأنها مُجرد كائن يعيش داخل عباءة كيان آخر، فالأحلام تتلاشى والطموحات تتراجع، والتسلية ليست من حقها، والساعات تمر عليها مثل الدهور، علاوة على أن كل ذلك يُؤثر على شكلها ومظهرها الخارجي بسبب شعورها أنها كائن غير مُتفاعل اجتماعيًا، وبالتبعية سيؤثر على انبهار زوجها بها لأنها تغيرت وتبدلت عن الصورة التي رآها عليها في بداية معرفته بها.
ولكن الحقيقة أن الزوج ليس هو السبب في كل ذلك، بل الزوجة فهي التي فتحت باب التنازلات على مصراعيه، وهي التي آثرت تأدية دور الجُندي المجهول، وهي التي استسلمت لتنازلاتها، حتى أصبح هذا الأمر عاديا وليس عملا بُطوليًا يُحسب لها.
ومن هنا أنصح كل زوجة أن يكون لديها معيار يقيس حجم تنازلاتها، حتى تكون في موضعها الصحيح، ولابد أن يكون التنازل في الوقت المُناسب حتى يلقى الصدى الصحيح، ويجب ألا تقضي هذه التنازلات عليها كإنسانة حتى لا تتحول إلى كائن سلبي لا يشعر بنفسه ولا بوجوده، وهذا بالقطع سيؤُثر على حياتها مع أبنائها، لأن الأبناء يُريدون أمًّا واعية للعالم من حولها، ومثل أعلى في النجاح والطموح والتميز، والزوج كذلك يحترم الزوجة التي لديها عقلا يجعلها تُقدم التنازلات دون أن تصل إلى مرحلة الإذلالات.
ساحة النقاش