هدى اسماعيل 

رمضان هو شهر الخير والبركة فيه يسعى المقتدرون إلى كثرة العطاء والمنح ويوسع الأغنياء على الفقراء، وكان لحكام مصر قديمًا خاصة في زمن المماليك عادات جميعها كانت تحت عنوان إسعاد الفقراء ونشر الخير في أرجاء المحروسة، بالإضافة إلى عقد مسابقات بين الجنود والتنافس في إطلاق سراح المساجين وإقامة الولائم وإطعام الفقراء وغيرها من أمور الخير.

في عهد المماليك بلغتِ العناية بالاحتفال بشهر رمضان حدًّا لا يُوصف تفوقوا فيه على مَن سبقهم وجاء بعدهم بسبب كثرة العادات والتقاليد المرتبطة بالشهر الكريم حتى كانت ليالي رمضان غاية في الأبهة والفخامة، وقد وُصفت مصر في عهدهم بسحر الشرق، لأنه كان عصر العلم والفن والأدب، بل عصر التدين لاهتمام سلاطين المماليك ومنهم قايتباي وبيبرس وبرقوق وقنصوه الغوري وأبو الدهب وغيرهم من السلاطين والأمراء والموسرين بالاحتفال بالمناسبات والأعياد الدينية. 

وقد اهتم المماليك بالمظاهر الاجتماعية وعرفوا حياة الترف والنعيم والبذخ حتى جاءت احتفالاتهم بمظاهر رائعة خاصة في شهر رمضان كاستطلاع الهلال عندما كان يجتمع الفقهاء من خلال منارة مدرسة المنصور قلاوون بالنحاسين، وعند ثبوت الهلال يعودون مع المقربين من أصحاب المهن والطوائف حاملين الفوانيس والشموع التي تتزين بها القاهرة بأزهى أنواع الزينات، ثم تعلن الطوائف الصيام، وبعدها يجلس السلطان في الميدان تحت القلعة ويتقدم إليه القضاة الأربعة الحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة وكبار رجال الدولة لتهنئته بدخول شهر رمضان.

مسابقات القوة

كان الظاهر بيبرس من أشهر من حرص على إقامة هذه المنافسات مع مماليكه وجنوده في ميدان القلعة، وكان يعطي الهدايا والجوائز لمن يرى فيه القوة والمهارة، ويصف المؤرخ المقريزي هذه المسابقات فيقول: رسم للجنود بالتأهّب للعب القبق (الرمي بالرماح على هدف عال) ورمي النشَّاب (السهام) فيكب من كل عشرة فرسان اثنان في أحسن زيهما وقت الحرب، وركب السُّلطان في مماليكه ودخلوا في الطعن بالرِّماح، ثمَّ أخذ السُّلطان الحلقة ورمى النشاب، وجعل لمن أصاب من الأمراء فرسًا من خيله الخاص، فاستمرّ ذلك أيَّامًا تارة يكون اللّعب فيها بالرمح وأخرى بالنشاب وثالثة بالدبابيس "آلة لها رأس مدببة كالبلطة"، وفرق السُّلطان فيها من الخيل والبغال "قمصان غالية لا أكمام لها تلبس أسفل العباءات".

ومن عادات حكام مصر في رمضان والتي استمرت حتى يومنا هذا إطلاق سراح المساجين احتفالا بدخول الشهر الكريم، وأيضا التوسع في توزيع الصدقات للفقراء والمعدمين، فكان الظاهر بيبرس يعتق 30 إنسانا بعدد أيام الشهر الكريم، كذلك فتح مطابخ القاهرة لكل الفقراء والمحتاجين وكان يصرف فى كل ليلة لهم ما يكفيهم من اللحم والخبز المطبوخ ويكسو كل سنة 600 كسوة.

ويذكر المقريزي أن الظاهر بيبرس كان يطعم كل ليلة من ليالي شهر رمضان خمسة آلاف نفس، وكان في أول ليلة من شهر رمضان يرتب بمصر القديمة والقاهرة والمناطق المحيطة بها مطابخ يعد فيها أنواع الأطعمة وتُفرّق على الفقراء والمساكين، ويوزّع الطعام ضمن حفل حاشد تُصاحبه الموسيقى ويقع السير بها في شوارع المدينة.

تحرير الغارمين

أما السلطان الظاهر برقوق مؤسس دولة المماليك الجراكسة (ت 801هـ) فقد اعتاد أن يذبح طوال سلطنته في كلِّ يوم من أيام رمضان 25 بقرة يتصدَّق بلحومها مع ما يُطبخ من الطعام وما يُخبز من آلاف الأرغفة على أهل الجوامع والخوانق والرُّبط والسجون، بحيث يخصُّ كل فرد رطل لحم مطبوخ وثلاثة أرغفة، وفى شهر رمضان اقتدى الظاهر برقوق بسنة من سبقوه من حكام المماليك، وحرر الغارمين من أصحاب الديون، ودفع أموالهم من ماله الخاص، كذلك كان يوزع على أهل الزوايا من الفقراء 1000 درهم فضة يوميا.

ويوضح ابن تغري بردي في كتابه النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، أنه كان لكل إنسان في عهد السلطان برقوق رطل لحم مطبوخ وثلاثة أرغفة من نقي البر، سوى ما كان يفرّق في الزوايا من لحم الضأن، فيعطي في كل يوم لكل زاوية خمسين رطلاً وعدداً من أرغفة الخبز، وفيهم من يعطى أكثر من ذلك بحسب حالهم.

ويذكر فؤاد مرسي في مؤلفه معجم رمضان أن الظاهر برقوق اعتاد أن يوسع على الفقراء والمساكين في شهر رمضان، قبل تولّيه إدارة البلاد، وسار على سنته من أتى بعده من السلاطين، فأكثروا من ذبح الأبقار وتوزيع لحومها.

قناطير السكر 

لم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل كانوا يتنافسون في إطعام أكبر قدر من الناس بأصناف الطعام والحلوى المختلفة، فقد ذكر ابن حجر في كتابه رفع الإصر أن قاضي القضاة جلال الدين البُلقيني كان يمد المائدة فلا يحجب عنها أحدًا من فقراء الناس فضلًا عن أغنيائهم، ثم يصلي العشاء والتراويح ثم يأتي بالحلوى للناس، وكان عند السحور يأتي بمائدة شبيهة بتلك التي أعدها في الإفطار.

وكان السلطان الناصر محمد، يصرف فى شهر رمضان من السكر ثلاثة آلاف قنطار قيمتها ثلاثون ألف دينار منها ستون قنطارا فى كل يوم من أيام رمضان لاشتهار المصريين بعمل الحلوى فى رمضان، وفي هذا السياق روى المقريزي في كتابه الأشهر "السلوك لمعرفة دولة الملوك" أن السكر الجاري في الأيام الناصرية محمد بن قلاوون كان ألف قنطار، فبلغ في رمضان ثلاثة آلاف قنطار، ولم يوجد في بيت المال شيء لكثرة الزيادات في الرواتب.

وفى شهر رمضان سنة 841هـ / 1438م أمر السلطان برسباى بالإفراج عن كل المسجونين على دين؛ إكراماً للشهر الكريم وسدد ديونهم، ثم تلاه قراراً آخر بالإفراج عن كل المساجين باختلاف التهم الموجهة إليهم، وكان لهذا القرار آثار سلبية على المجتمع؛ حيث انتشرت الجرائم فى شتى بقاع مصر، وفى شهر رمضان 908هـ /1502م، أفرج السلطان قنصوه الغورى عن جماعة من المحبوسين على دين بعد أن سدد ديونهم، وأبقى أصحاب الجرائم على حالهم، وكان السلطان قايتباى، يوزع كل سنة فى شهر رمضان كسوة العيد على الفقراء والأيتام.

الخانقاه

اشترط بيبرس الجاشنكير المملوكي (1308-1309) أن يوزع في ليالي الجمع من شهر رمضان نصف رطل مصري من الحلوى على الصوفية والفقراء في الرباط الذي أنشأه أو ما يسمى بـ"الخانقاه"، وكذلك في ليلة ختم القرآن في التاسع والعشرين من كل رمضان، على أن يضاعف نصيب شيخ "الخانقاه"، وأن تكون الحلوى عجمية معمولة من الدقيق المستخرج من القمح والعسل المحلي بالسكر والخشخاش وماء الزعفران واللوز.

وممن اشتهروا في مصر الإسلامية بالكرم في رمضان وإطعام الفقراء والمساكين الأمير الصاحب بن عباد، فقد كان لا يدخل عليه أحد في شهر رمضان بعد العصر كائنا من كان ويخرج من داره إلا بعد الإفطار عنده، وكانت داره لا تخلو كل ليلة من ليالي شهر رمضان من ألف نفس مفطرة فيها، وكانت صلاته وصدقاته وقرباته في هذا الشهر تبلغ مبلغا ما يطلق منها في جميع شهور السنة.

المصدر: هدى اسماعيل
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 331 مشاهدة
نشرت فى 4 مارس 2025 بواسطة hawaamagazine

ساحة النقاش

hawaamagazine
مجلة حواء أعرق مجلة للمرأة والأسرة المصرية والعربية أسسها إيميل وشكرى زيدان عام 1955، وترأست تحريرها الكاتبة أمينة السعيد، ومن يوم تأسيسها تواكب المجلة قضايا وهموم المرأة والأسرة المصرية والعربية. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

24,991,411

رئيس مجلس الإدارة:

عمر أحمد سامى 


رئيسة التحرير:

سمر الدسوقي



الإشراف على الموقع : نهى عبدالعزيز